الأربعاء، 30 مارس 2016

هبة القدر


يليقُ بكِ هذا السكون الذي يذعن لضجيج لطفك، ويليقُ بكِ المكان يبدل من جلده ما يتفق ورقتك، وتليق بك اللحظات تأتي بكِ مُستقطعةً من زمنٍ آخر ساعاته من لهفةٍ وأيامه من وله، وسنينه من شغفٍ لا ينتهي، ويليقُ بك أن يستبطئكِ الحضورُ نفسُهُ، ويليقُ بك أن تتأخري عن كل شيء إلا عن هذا الاستبطاء في قلبي وفي أعين الناس، ويليق بكِ هذا الاحتراز في التعبير عما تمسِّينه من مشاعري ألا أجد صيغةً مناسبة تعني ما تطبعه في نفسي هالتُك النورانية التي أصعد بها إلى درجةٍ من العيِّ أضاهي بها في حالٍ آخر درجات الكلام جميعها من فصاحة وبلاغة وبيان.
يليق بك هذا الخلود في ملصقٍ فني في ذاكرة المشهد. هالتُكِ النورانية تلك تحورت بشيءٍ من دلالتها المادية إلى فراشاتٍ تُحيط بك بذات الضجيج من اللطفِ الذي يُقلُّكِ كسحابةٍ عذراء تعبر أحد الحقول.
ويليقُ بكِ هذا الترفُ من الفتنة في صدري، لأنني حينما أفهمه تماماً أظهرُ له بأنني لستُ وإياهُ على وفاقٍ، أو أنني أتجاهله وحسب، فتعودين شاكةً في أنَّكِ لم تمنحيني إياه على الغاية التي أريد أو شيءٍ منها، فتطلقينه من جديد ترفاً على ترف فأنعمُ به طالباً المزيد؛ لكنني لا أتجاهله دائماً خشية الخروج من ذلك النطاق الذي ندور فيه كيما يستمر ما بيننا.
أنتِ، كما أنتِ لا يُشبهكُ سواك وحظي الفاخر حينما فاز بك، وهو الذي لم يكن من قبل كذلك. أنت ذلك النسيم الذي يلاطف روحي بين حينٍ وآخر داعياً إياها بطلاقته المعتادة إلى الجنة، كمَلَكٍ لم يُوَكَّل بغير هذا لغير واحدٍ من الناس.
وتليقُ بكِ هذه الجروح في نفسي تندمل ساعة أن تعصبي ماضيَّ البئيس بنطاقٍ من أملكِ الخالد في حاضرٍ تصنعين بياضه من تشكلاتٍ للإيمان عالقة في شبكةٍ من رجاءٍ قديمٍ رجح بما سواه.

وأليق بك أنا، هبة القدر إليك، لمَّا كنتُ أحلق بأحلامي فوق جناح القدر مسافراً أبدياً أبحث عن ذلك اللطف، ذلك اللطف الذي بدا فكنتِ أنت، وكان أن وقع ذاك الخيال السحيق على أرضٍ تفسَّحت لكِ عن أجمل ما للطبيعةِ فيها، وكنتُ أنا من ثمَّ ذلك المعنى النبيل الذي لا بد وإن طالت الرحلة أو امتد الحلم أن يعتني بهذه الدلالة، ويمتطي هذه الصهوة من اللغة الجميلة التي لا يعرفها سوانا.

الاثنين، 29 فبراير 2016

أيام عميد الأدب العربي

الأيام، بعد أكثر من عشر سنوات أعاود قراءتها، وكنت قد توقفتُ في منتصف الكتاب الثاني.
شعرتُ لوهلة ــ بعد أن فرغتُ من الكتاب ــ أنني أملك قدرة هائلة للتحدث عن محتواه وعن تأثيره الأدبي والإنساني، فإذا بي أجد صعوبةً أي صعوبة حالما شاهدتُ لقاءً مسجلاً لنجوم أدبية مع العميد، وكيف كان حضوره مهيباً جليلاً في نفس المشاهد المهتم فضلاً عما كان في صدور الأدباء معه في ذلك اللقاء. لكنني رغم ذلك سأحاول أن أتحدث بما أظنَّ أنه يتفق وبهاء حضوره في كتابه وفي ذلك العرض.
أعتقد أن الكتاب الجيد، هو ذلك الكتاب الذي لا ينتهي من صدر قارئه أبداً حتى وهو يغلق غلافه الأخير، أو يتأثر به فترةً ما، أو يكتب عنه شيئاً ما، الكتاب الجيد إضافة إلى كل ذلك هو الذي يلازم القارئ أغلب فترات حياته، وهو هو الذي يدفعه لأن يستزيد من مادته بشتى الوسائل الأخرى، وهذا باختصار ما حدث معي في أيام الأستاذ طه حسين. بحثت حالما انتهيتُ من الكتاب الأول عن مقالةٍ مفصلة عنه، قرأتُ بفكرةٍ أخرى ليست قريبةً من تلك الأولى التي مرت عليَّ من قبل لأستعلم شيئاً يذكر عن أدباء عصر النهضة، فكرة تمس تلك الصورة التي نقلها العميد عن نفسه صبياً بين ريفه الساحر، وأحياء القاهرة الحميمية المفعمة بالحياة والعلم. ثم تتبعت بعض ما قيل عنه ممن عاصره أو أعقبه بمدة يسيرة، ثم شاهدتُ ذلك اللقاء الذي أحجم فيَّ شيئاً من الإقدام.
 حديثه عن أسرته واغترابه الذي يشعر به بين فترةٍ وأخرى كان يستنطق فيَّ حزناً وحنيناً غريباً لكنني أعرفه. يصور الأستاذ ذهابه إلى الكتاب، ومسامرات أبيه قريباً من البيت، وفي المنظرة مع أسرته، وذهابه إلى القاهرة، والحياة التي مارسها في الربع مع أخيه وبعض طلاب الأزهر، ثم الحلقات التي اكتظ بها الجامع، وإعلانات الأحذية المفقودة الملصقة على جدرانه، وطريقة أداء مشايخه في تدريسهم، وذهابه إلى فرنسا مبحراً كل ذاك يقع من نفسك وأنت تقرأه موقعاً يفوق الحسن، خاصةً أنه لا يستخدم من أداة الوصف إلا السمع، وكان على ما كان منه بديعاً جداً.
سيرة " طه حسين " تستحق أن تدرس على أصعدة كثيرة، أدبياً، لغوياً، إنسانياً، معنوياً، الطموح الذي أشعل فيه منذ صباه جذوة من المثابرة والصبر وعدم اليأس كافياً لأن يعلمنا أننا على يأسنا القريب من كذا عقبة لا نستطيع أن نحقق جزءاً يسيراً من أحلامنا، لا شك أني ككل قارئ حينما أقف على العقبات التي مرت به في حياته أقارن بها شيئاً مما كان قد حدث لي أو ما زال يحدث؛ لكنني أتعجب وأكبر منه أنه كلما تعثر قام فنهض ثانيةً كأنه لم يتعثر، بدا ذلك غير قليل: حينما أراد السفر ثم الرجوع إلى القاهرة ليتعلم، ثم في وحدته القاتلة مع أخيه الذي يتركه أحياناً كثيرة ليسمر مع أصدقائه فيجافي النوم قلقاً أرقاً، ثم في عدم تقبل أساتذته في الازهر لمناقشاته، واستهزائهم به، وسخريتهم من كف بصره، ثم في التماسه من الجامعة استثناءً ليلتحق بالبعثة التعليمية إلى فرنسا، مرةً واثنتين، وثلاث، ثم في معترك حياته الجامعية في فرنسا واختباراته التي لا تنتهي، ثم فيما تبقى له من عمره بين مناكفات ودراسات أدبية فكرية اتهم فيها اتهامات عقدية أغلب الظن أنها تركت فيه وجعاً ممضاً على ذلك المتراكم الذي ما زال ينبض بين حناياه.
اللغة التي تحدث بها " طه " لم تكن لغةً اعتيادية تقتصر وظيفتها على أن تكون أداةً لأن يفهم الناس ما يكتب ــ كما نصح بهذا في لقائه التلفزيوني ــ ولكنها زيادةً على ذلك كانت معنيةً بنفسها، متأنقة، رشيقة تقف بسهولةٍ حيثما يُراد لها، وتتحرك كأعذب ما تكون حينما تنطلق بجملٍ أو كلمات نفث فيها من روحه الوقادة تلك التي كانت في أشد جذوةٍ لها حين تزوج من تلك الفتاة الفرنسية العظيمة التي شاطرته حياته فكانت له عوناً يعتمد عليه ونوراً يرى به كل شيء، وهو الذي قال عنها أنه: " منذ أن سمع صوتها لم يعرف قلبه الألم".
كما أنه حينما أفاض بسيرته وحكى عن الفكرة التي لم تعجبه في طريقة ومنهج الأزهر المقيد بتقاليد ينتقدها، كذلك يقف على نفسه موقفاً شبيهاً بذاك حين احتد في اعتراضه على المنفلوطي لغوياً، وعلى شيء من الحدة التي كانت تعجب الشاويش ولا يرضى عنها لطفي السيد ولا هو نفسه فيما بعد.
الأيام وإن كان لم يكتمل في نفسه بما لحق من سيرةٍ، إلا أنه كتابٌ جدُّ نفيس في أدب السيرة، ويزيد على أن يكون رائعاً في سيرة الأدب.

شكراً أستاذنا الأديب العميد طه حسين، شكراً على هذا الأدب الماتع، شكراً على هذا الحديث الحميم الصادق، شكراً لأنك احترمت عقولنا وأخذت على شغفنا بهذا الكتاب، شكراً من القلب.

الأحد، 31 يناير 2016

القائمة المفضلة لقراءاتي عام 2015م

ربما كان عامي القرائي 2015 مختلفاً بعض الشيء من ناحية الكم المقروء وطريقة الفعل القرائي نفسه، إلا أنني لا أستطيع أن أجزم بعد أعوام قليلة ــ ربما ــ بذلك؛ وقد كنتُ حينها تجاوزت مرحلتي القرائية هذه؛ لأن الاطلاع بحد ذاته إضافةً إلى تنويره وقيمته المعرفية قادر على أن يجعلك في مرحلة استيعاب مستمرة، تتجاوز بها نفسك كل مرةً قدمت بها إحدى قدميك على الأخرى.

ما بين وصايا الأصدقاء، وإعلان غير مباشر مبثوث في بطن كتابٍ أدبي جميل، وإذعان لصوتٍ يتكرر في أذنيك باسمٍ لمؤلف أو عنوان لكتاب، وشغف يدفعك دفعاً للمكتبة لتمسه بيدك من بعد أن تكون قد اخترت ما تظن أنه يتفق وشغفك هذا، ما بين كل ذلك حفل عامي هذا بمجموعة من الكتب الماتعة التي أعتقد أنها إضافة ولا شك لحصيلة القارئ في أصنافها المتعددة.


ما بين السيرة والمذكرات كان هذا السرد المدهش لمالك بن نبي، السرد الذي يتداخل نوعاً ما في فنه المحكي بالرواية ليعود إلى السيرة حاملا نوراً يسبق عين القارئ في صفحات تبسة ومقاهيها وأرصفة قسنطينة، وشقته الصغيرة في باريس، والحي اللاتيني هناك والكثير من المخاوف التي جعلت من مالك بن نبي ذلك الثائر الجميل يمتشق قلمه ولسانه يدافع عن الأمة. هذا الكتاب في قائمتي المفضلة.


كتب كثيرة عرضت موضوع الفتنة وخاضت فيه؛ لكنها ـ حسب قراءاتي ـ لم تكن بسلامة النهج، والميل إلى الموضوعية ككتاب الشنقيطي هذا الخلافات السياسية بين الصحابة، وهو  " رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ".
وفي أمر سلامة النهج والميل إلى الموضوعية ترجيح عقلي لا تأثير انطباعي؛ لأنه في النهاية يخلص كما تخلصُ أنت أيها القارئ إلى تلك القيمة التي هي نتيجة بحد ذاتها في التوازن بين قداسة المبدأ وفضل الأصحاب، وهذا في نهاية الأمر لا يعني أن مبدأً ما أو قيمةً ما وضعها الشرع يصح الغض منها تبريراً لخطأ صحابي من باب الذب عنه، كما أنَّ تلك القيمة مع قداستها لا يمكن أن تشطط بنا في رأي فتدفعنا إلى أن نغض من فضل ذلك الصحابي مثلاً فنصل إلى مرحلة خطيرة من النقد الذي يهبط إلى ما دونه من السباب والشتم. كذلك يحتل هذا الكتاب قائمتي المفضلة.


الكتابة عما فعله " يوسا " في " حرب نهاية العالم، لا طعم لها؛ لأن الدهشة أغلب ما تنعقد حين تفعل في اللسان ومن ثم مع ما يمور في نفسك منها تنفك عقدة بالمعنى المناسب في صدرك لا ذلك الموضوع في اللغة، فترسمها في الهواء أكثر من كونك تنطق بها " واو".
أن تكتب عن حدث تاريخي حقيقي، ثم تتنبأ بما كانت عليه تفاصيل التفاصيل، وتسردها بتلك الطريقة التي تتسق تماماً مع ذلك الحدث، فهذا لا يعني سوى أن تكون روائياً بارعاً جداً. وأن تكون تلك الرواية المكتوبة بذلك التماسك الفني الشديد في ظلِّ وفرة أحداث ملحمية كهذه، تمتلئ ــ وأنت تقرأها ــ بتفاصيل تفاصيلها عوضاً عن المجمل رواية عظيمة بلا شك. هذا الرواية على رأس قائمتي المفضلة.


أوسكار وايلد ونظرة من جانب فاضل عن الجمال والخلود وفلسفة العلاقات الإنسانية، ونقد ارستقراطية المجتمع الإنجليزي من طريقة ثقافته إلى رتابة الحياة التي يحياها وكيف كان لها أكبر الأثر على طموحه.
الرواية بديعة ولا شك أنها مما يخلد في الذاكرة، بدءاً من فكرتها الجميلة، ومروراً بفلسفتها التي أثارت في أنفسنا شيئاً من المقاييس المخبوءة، إلى شخصياتها المندمجة تماماً في بنائها عدا الطابع المسرحي الذي كانت تتحدث به وانتهاءً بنهايتها المدهشة.


آه يا ماريا، أيقونة الحب المتعسر الذي يتعثر فيما بعد، لكنه يبقى خالد في القصص المحكية، والعبارات الجميلة، والاعترافات الحميمية، وهو على ما هو عليه ــ ذلك الحب ــ يكبر دائماً في قلب " رائف " أفندي الذي ربما يشعر بالغيرة من هذا الغزل، الغيرة التي افتقدها في الحانة " الكازينو " حين قبل مادونا فنانٌ شاب أتى ليسلم عليها..
ما بين " رائف أفندي " المسحوق، المملوء بالفراغ، الفراغ الممتلئ باللاجدوى، الذي كان يعيش على فُتات أحلامه وخيالاته و" ماريا بوردو " الشخصية التي آمنتْ بأنها لن تجد من يمس ضعفها الحقيقي بلطف، كانت العلاقة تكتمل رغم تعثرها في أنحاء شتى، بدا رائف فيها مكمن الضعف الذي بدوره يكمل حلقة القوة التي وجدتها " مادونا " طريقةً في العيش حتى لا تصبح فريسةً وإن كانت تشعر بالضياع واللاجدوى، أيقونة الألفة بينها دائماً. الرواية تحتل مكاناً مرموقاً في قائمتي المفضلة.


يتحدث " كنوت هامسون " عن الجوع بطريقة لذيذة تشبع القارئ النهم بكل تأكيد.
 من الواضح أن هامسون يتحدث عن أقوى مُغيِّر أو مؤثر ــ ربما ــ على الفضيلة أو الشرف الذي يتحلى به الإنسان ليحترم نفسه، وكيف أن بطله قاوم ذلك المنزلق من أجل ألا يشعر بالخيبة من نفسه التي كان معجباً بها رغم كل ما يمر به.



أجادت لطفية الدليمي جمع هذه الحوارات ودمج هذه التجارب المضيئة لعدد من مبدعي كتابة الرواية، كما أنها أجادت تقديم هذا العمل والتمهيد له وترجمته كذلك. تعريفها للرواية ـــ بأنها أداةٌ معرفية قائمة على حرية الفكر والنزوعات البشرية والتحولات المجتمعية ـــ يشير إلى أنها تقف في هذا الفن بأقدام راسخة استطاعت عن طريق ثباتها هذا وإدراكها ذاك أن تبعث في نقل هذه الحوارات من لغة إلى أخرى روحاً محلقة من المعنى المشترك بين اللغتين.
من بين ثمانية عشر روائياً كنت قد قرأتُ لساراماغو وأليف شفق، وكولن ولسون كتاباً نقدياً عن فن الرواية.
توزيع لطفية الجغرافي كان جيداً ولم يكن له منهجاً معيناً حتى نقيسه على قيمة ليست مفقودة. نزعة أدباء أمريكا اللاتينية إلى الفلسفة بناءً على واقعهم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي غير المستقر الذي ساهم بشكل أو آخر كذلك في انطباع كتاباتهم بحقيقة ذلك الواقع، وكثافة أمانيهم في أن يتطور أكثر، أقول تلك النزعة بدت واضحةً في هذا الكتاب أيضاً من خلال أدبائها غاليانو، وفالنسويلا، والمكسيكي كارلوس فوينتس، والبرتغالي ساراماغو. .
طريقة الكتابة أو نهجها الذي يتبعه أولئك الأدباء من انضباط صارم أشعرُ أنه يعبر بطريقةٍ ما عن طبيعة حياتهم وطريقة معيشتهم، فحولوها بناءً على تلك الطبيعة إلى مهنة كبقية المهن تعوز إلى النظام والالتزام، وهذا لا ينفي موهبتهم وتفوقهم ـ في الرواية خاصةً؛ بيد أنه قد لا ينسجم تماماً مع أمزجتنا نحن العرب، ليس تواضعاً أو عظمةً لجنس دون آخر، ولكن لاختلاف الطبع والثقافة والحضارة والجغرافية، وقد أكد الجاحظ وغيره من أدباء العربية على معناي هذا الذي أردت من طرقها في سوانح المزاج حتى لا تكون صنعةً وتكلفاً لا روح فيها، وهذا يخالف مقتضى الانضباط إذ يستحيل أن يكون المزاج سانحاً كل الوقت؛ لكن هذا وبشيءِ من الوسطية يعني أن تنضبط في الكتابة انضباطاً لا يستغلق به مزاجك، ولا تتعرض كتابتك في حرصك على حضوره إلى الإهمال فتموت قبل أن تحيا.
ساراماغو بدا كئيباً وهو يتحدث عن أعماله وعن الأدب وعن طريقته في الكتابة، لا أدري ربما كان هذا ضريبة زيادة الوعي واتساع الثقافة.
فيليب روث يعترف أن الكتابة حرمته من أشياء كثيرة، كما أنها في سهلها الممتنع جحيماً مستديماً لا يوده مصيراً للشاب المقبل على الكتابة.
إدواردو غاليانو بدا كمرشدٍ ديني في إضفاء طابعه الفلسفي وحكمته على تجربته في الكتابة وهمه الوطني الذي سيظل مؤرقاً له إلى ما لا نهاية.
كارلوس فوينتس، مثقف واقعي وكاتب مجيد في مهنته يعرف كيف يمارسها ويحرص على ألا يحدث بينهما شقاق، يقول في الكتابة: " أراها حواراً مع الثقافة الخاصة للكاتب ومع الحضارة التي ينتمي لها ومع كل الأشياء التي يعرفها ويتذكرها".
أليف شفق تبدو طموحة، تسير بخطى ثابتة، لم تكوَّن فكرةً كلية نهائية بعد.
لم يتغلب موراكامي على صراعه مع نفسه في انتمائه إلى الثقافة التي يكتب بها، يتمنى أن تكون يابانية؛ لكنها في الحقيقة ليست ككتابات اليابانيين ولا ثقافتهم.
أعجبني عشق باموق للكتابة، أجد ذلك واضحاً في إجاباته لا يحتاج إلى استنباط، تشغله تركيا، يودها لو تحتذي الثقافة الغربية الأمريكية خاصة. كما أن من اتهم أناييس نن على نرجسيتها في هويتها الأنثوية ليس مخطئاً تماماً من وجهة نظري فيما عرض من حوارها.
دوريس ليسنغ روحها تحيط بالقارئ، تثق بنفسها كثيراً، تأثرت بالصوفية الإيرانية.
كالفيانو أستاذ حقيقي، يقول من ضمن إجاباته: " الروائيون يحكون عن ذلك الجزء من الحقيقة القابع في قاع كل كذبة.
أحببتُ مارغريت أتوود وودتُ لو وجدتُ لها عملاً مترجماً. .
في النهاية هناك دائماً شيء صغير ينطلق الروائيون منه في الكتابة، سواءً أكان ذلك الشيء فكرة طارئة، أو صورة، أو غير ذلك، وهو هو البذرة الحميمية التي تنمو فتكبر وتتفرع إلى أن تصبح رواية. هذا ما يقوله الروائيون دوماً ويتفقون عليه.
كتاب يضيف لمكتبتك رونقاً وأناقة ولعقلك تجربةً ومعرفةً ثرية.


هنا جورج أمادو يجرد الموت بطريقة غريبة، ساخرة، لم يفعلها أحد قبله. يغوص إلى النفاصيل، يهتم كثيراً بالهامش، يغفل المتن متعمداً لأنه ليس متناً في نظره، المتن هو تلك الجزئيات والتفاصيل التي تدفقت فجائياً من الهامش. رواية تستحق القراءة.


المثير في أسلوب د. الوردي أنه مشوق سلس، تشعر وأنت تقرأ سياقاته بأنك تلتهم الكلام التهاماً لذيذاً؛ خاصةً إذا ما كان نفَسُهُ في علم الاجتماع.
يبرز الوردي ثورة ابن خلدون على المنطق القديم بأقيسته المعلبة وبأهله المعتلين أبراجاً عاجية يتأملون للناس ويرون لهم الصالح، ليقوم هو بدوره بإنشاء منطق خاص به قائم على الواقعية وأن لكل شيءٍ وجهه الحسن والقبيح، وأن على الفيلسوف أو المصلح الاجتماعي التداخل مع المجتمع وفهم الواقع، وإبراز ما هو واقع لا ما يجب أن يكون كما في المبدأ القديم. وهذا هو سر الإبداع العظيم الذي أتى به ابن خلدون ولولاه لما حاز هذه الشهرة، ثم يذكر العوامل التي ساعدت ابن خلدون في أن ينتج هذه النظرية، كصراعه الداخلي بين حب المنصب والعلم، وتأثره بأستاذه الآبلي المعتزلي، والظروف الاجتماعية والسياسية آنذاك.
ويعرض لنا مقياس ابن خلدون في تمحيص أخبار التاريخ، بأنه فهم طبائع المجتمع لا الاهتمام بالرواة ولا القياس بالعقل.
في النهاية الكتاب مثريٌ ويستحق القراءة بلا شك

الصيد في جوف الفراء، يزخر آخر هذه القائمة الجميلة من الكتب التي قرأت بهذه السداسيات الفلسفية لبورخيس، ذلك المعلم الجميل الذي وددتُ ألو تتلمذتُ على يديه حقيقة. الكتاب يستقرئ نظرة هذا المعلم عن المتاهة واللانهاية وشيء من قصص جميلة. 

الخميس، 28 يناير 2016

بول أوستر في اختراع العزلة

 

مثيرٌ للشفقة بول أوستر، الحزن الكامن خلف نظراته الحادة يشي بهذا اليتم الذي شعر به منذ الصغر، قبل أن يشير إلى هذا حديثه الممتلئ بالوجع، ووصفه العميق لمشاعره المخضبة بالفقد، ذلك الفقد الذي ينبعث في حقيقته من المعنى العبثي للحضور. مثيرٌ للشفقة بول أوستر هو يعلم هذا؛ لأن أباه في النهاية لم يكن بمقدوره حسب ما تراءى لي أكثر من ذلك. لم يتجاوز الأب ذلك الحادث الأليم في بواكير حياته؛ لذا لم يكن الأب حياً منذ تلك اللحظة.
حديث بول عن الموت كان قريباً مني بدرجة كبيرة، قراءتي لكتابه في هذا الوقت كانت نوعاً من المشاركة في العزاء، الرثاء. أعترف أن هذه المذكرات اللعينة مستني لأمرين: الأول، أنني تقاطعت مع بول أثناء بحثه عن أبيه في بحثي أنا عن أبي رحمه الله، وعن يتمي الذي شبَّ معي، منذ الصغر، يتمي الذي أكبرهُ بثلاثة أشهر فقط. الثاني، أنني منذ شهرين ماضية في حالة عزاء لثلاث وفيات من الأقارب، أحدهما خالي. كنت حين أقرأ وصفه عن أغراض الميت أتذكر تلك التساؤلات والمخاوف التي طالما ألفيتها تئز في صدري تود أن تخرج، كان منها شيئاً يسيراً في " ظلمات " حين خشي أبان من أن يقرأ تاريخ الموتى من صفحات وجوههم الباهتة.  أكتب الآن وأنا مؤمنٌ بأن بول أوستر ليس وحده مثيراً للشفقة؛ لكنه تجاوز هذا الأمر فيما بعد كما نفعل وسنفعل جميعنا.

هل من الممكن أن أصف الكتاب بأنه جميل وهو يئز ألماً. أجل أستطيع قول ذلك؛ لكنك لن تكون سعيداً على كل حالٍ حينما تفرغ منه على الأغلب.