الأحد، 28 مايو 2023

تضاريس عالمٍ موازٍ/ قصة

 

كثيراً ما كان يعتزل في مكتبه. لم يحدث أن شعر بالوحدة بين تلك الأرفف التي تحيط به من كل جانب. كانت الكتب هواء تلك الغرفة، وهواءه شخصياً، بينما لم أحفل أنا بأي شيءٍ من ذلك إلى وقتٍ قريب. كنتُ أتردد عليه بين فينةٍ وأخرى. أضطر أحياناً في أن أشاركه ذلك الشغف، لا لشيء إلا لأنني أحب أن نتصل أكثر، نتشاطر أهم تفاصيل الحياة التي قررنا أن نتقاسمها سوياً. أدلف عليه من وقتٍ لآخر أدعوه لأن يقتسم معي بعض الطعام، أو يشاركني الشاي المنعنع الذي يحب. يصر على المكوث هنالك، ويقترح أن يكون ذلك عنده في المكتب.

بدايةً، قبلتُ ذلك على مضض. لم يكن المكتب ليتسع لي. كان منغلقاً كحبيبي، منزوياً في ذلك الركن الصغير من البيت الذي لم يكن واسعاً رغم المساحات الشاسعة التي تحده من كل الاتجاهات. منطوياً على بعضه. المكان تملأه الفوضى. لا فراغ رغم ذلك إلا عند عتبة الباب. كان قد شق طريقاً من كرسيه - الذي لا يجلس عليه كثيراً - إلى الباب بعد قبولي مشاركته بعض تلك الأوقات؛ مزيحاً عدة أبراج متوسطة الطول من الكتب المترامية في الغرفة، تمتد سلسلتها من عمود الإنارة الذي يضاهيه طولاً بجانب كرسي الأرابيسك المهجور الذي يجلس عليه مجسم الكرة الأرضية باطمئنان حتى الركن الذي يليه يميناً من مكتبه. كراريس متفرقة، ثلاثة صناديق خشبية صغيرة في جوف أحدها عدد كبير من الفواصل الكرتونية، والثاني غصَّ بجمع غفير من المذكرات الصغيرة بحجم الكف، والثالث كان مقفلاً، خفيفاً عند حمله لا يبدو فيه شيء، لكن صوتاً صدر حين هززته، أطراف ورقة سميكة تصطدم بجدران الصندوق ربما. حدث كل ذلك بعدما قايضت جلوسي معه بترتيب المكتب، وتنظيفه حتى يغدو أكثر قابلية لصناعة حياة منظمة بعض الشيء. برفق أمسك بي لألج عالمه. مضى بي إلى العناوين التي يفضلها، كان هناك أكثر من عنوان في التاريخ، يذكر لي بين حين وآخر عن المعنى الفارغ الذي سينسل من الإنسان حين يكون بلا تاريخ. التاريخ هوية، بطاقة العبور للمستقبل. يشبهه بالنسب كما قال لي غير مرة، هو تماماً كاسم العائلة الذي يختم اسمك في كل مرةٍ تسرده كاملاً. طاف بي أرجاء ركن الروايات والقصص، وقد كان أكبر أركان مكتبته. تنقل بي بين الفانتازيا والواقع والخيال العلمي والأساطير. لم أكن أعرف الكثير من ذلك. أحببت قصة الرجل الذي وجد حظه نائماً عند شجرة بعيدة في الصحراء، وتلك الفتاة الجميلة الباهتة التي ملَّت جمودها في صورة معلقة على الحائط لتقتنص بضع حيوات ظريفةٍ مع ساكن الغرفة الممتلئ بالوحدة. لفتتني أيضاً حالةٌ تتسبب بها فتاة مبتعثة لأهلها حين ترسل لهم برقية باللغة الفرنسية؛ ليظنوا أنها في خطر داهم لأنهم لا يعرفون تلك اللغة. قص حبيبي عليَّ بعض القصص وندبني لاكتشاف البعض الآخر بنفسي. انشغلتُ معه. انسحبت من نفسي لأنغمس رويداً رويداً في ذلك العالم، عالمه، توحدت معه فيما يقول. قطعت وإياه مسافاتٍ نورانية. تقدَّمتُه في إضفاء واقعه السحري الذي يريد، إلى أن تأخرت عليه ذلك اليوم، منذ متى؟ تتشوش ذاكرتي كلما حاولت أن أصفو. تتصدع الأرض من تحتي، وتصطفق جوانحي فأنصعق بقوةٍ خارقة لا أستطيع الصمود أمامها. تنهزم روحي. تتزعزع ثقتي بنفسي، ثم لا أملك من حقيقة ذلك شيئاً.

لكنها مدة محمومة، طويلة جداً تقارب السنة أو تزيد قليلاً. كان قد طلب مني مجمراً ليذكي عوداً معه. كان طلباً غريباً بالنسبة لنا؛ لأنني لم أعد أطيب البيت بالبخور منذ أن شكا لي ضرر صدره من ذلك. بحثت عن المجمر في كل مكانٍ اعتقدتُ أنني وضعته فيه. قلَّبت المطبخ، غرفة الضيوف التي لم يزرنا فيها أحد منذ أن سكنا هنا، خزانة الملابس أسفل الفساتين المعلقة، حقيبة أدوات التجميل، أدراج التسريحة، ركن الشموع الفارغ، الحمام، لم أجد له أثراً. استغرق ذلك مني زمناً، الغريب حقاً أنني أجلَّت سؤالي له عن سبب ذلك إلى أن آتيه بالمجمر، لكنني عندما دخلت المكتب لم أجده، كأنني أصبتُ بالدوار حينها، أو أنه شيءٌ تهيأ لي، لستُ أدري؛ لكنني ندهتُ عليه بأقصى ما في روحي من رجاءٍ ووجد، في كل أرجاء المنزل، في الفناء الأشبه بممر، في الخارج، في البئر المردوم منذ أن تفجر الجدول الصغير بإزائنا بين شجيرات الدردار، في المزرعة القريبة التي تفصل بيننا وبين أقرب سكن منا ببضعة كيلومترات، في كل مكان، حتى في قلبي لم أجده ذلك الوقت؛ لكن أثره باقٍ. خطواته لم تزل تشق في مهجتي دروباً لا تنتهي.

بحثتُ عنه لما يقارب العام. تنفستُ هواءه المملوء بالكتب، والقراءة، والمعرفة، والعزلة، والتأمل ربما، حتى أصبحتُ أشبه بعابدةٍ في مغارة. حاولتُ من خلال انكبابي الشديد على كل ما كان له صلةٌ به؛ أن أجده، أن أتيقَّن بأنه لم يرحل أبداً.

 أعدت المبخر إلى مكانه في أقصى زاوية الرف العلوي. وجدته هناك بعد بضعة أيام من اختفائه، رحيله. جلست على كرسي المكتب الهزاز. لم أعد أتنفس هواءً نقياً. شعرتُ بأنني بالغتُ جداً في تطيّبي. لم أعد قادرة على التركيز بشكل طبيعي. خشيتُ أن أفقدني أنا الأخرى في معمعة ذلك. لم أتبين الصندوق شبه الفارغ على سطح المكتب. كنتُ أنوي فتحه. لستُ أدري إذا كنتُ مهيأةً للانجراف في نقطة التماس مع العالم الموازي القريب، تلك النظرية التي تحدث عنها غير مرةٍ قبل سنة بالتمام، وأفصح عن شغفه بها، وولعه في البحث عن نسخه في تلك العوالم، أرواحه السبعة التي تشكل أحلامه وآماله وأمانيه وخيباته معاً. كنتُ أنتظر مصيراً مجهولاً محفوفاً بالموت وحده، وبالفقد مرة أخرى.

عقب دواماتٍ متكررةٍ من الوعي الكامل بفقدي للوعي، تلقفني حلمٌ غريب أو إرهاصة كبرى لواقع افتراضيٍ جديد. كنتُ على مسافةٍ مناسبة من معرفتي بأنني أقطع براري شاسعة على مد الأفق، قاحلة أضناها الشحوب، لا أثر لماء ولا لحياة. جريتُ حين شعرتُ بقلقٍ ما اجتاحني فجأة، استطعتُ أن أميز خطوطاً متوازية بانتظام في شمالٍ قصيٍّ مني. صيحة، صوت، هو صوتٌ لا بد أن يكون صيحة في هذا الفضاء الساكن. اقشعرَّ جسدي. شعرتُ بأنها هادرة. فزعتُ بسرعةٍ أكبر إلى الأمام، الاتجاه الذي كنتُ أتخذه من قبل، ليس من اتجاه آخر أطمئن إليه. تعتلي الصيحة. يتأكد الصوت. لم أعد أسمع وجيبي. كانت عيناي تتغضنان جزعاً، لا أعرف ما أصابني؛ لكنني توقفتُ حين سمعتُ الصوت ينادي، وقفتُ تماماً لأصيخ سمعي بوضوح. تلفتُ حولي. أجل هو نداء. إنه يهتف باسمي. ركضتُ باتجاه الصوت. تجاوزتُ تلالاً ومفاوز بدت لي دون أن أعرف حتى رأيتُني أقترب من تلك الخطوط. كانت سطوراً منتظمة، سطوراً مصفوفةً بعناية. الأرض تنقبض من جميع الجهات، حتى لم يعد يبدو لي سوى هذي الخطوط والهامش الذي كنتُ أجري فيه. كان العالم كأنه انطوى في كتاب لم تمتلئ صفحاته بعد بينما أنا أجري كنملةٍ من فراغاتها حتى الكتابة. رأيتُهُ، رأيتُهُ هناك بداية الضفة الأخرى، الصفحة التالية، يعتمر عمامةً حمراء، أو ربما هي دماء تجري من خلفه. يحتضن قلماً ضخماً، يخط طريقاً جديداً من الكلمات التي انتزعها من روحه.