يسعدني أحياناً أن أتألَّم،
وأتوجَّع، وأغوصَ في بحر الألم حتى لا أنجو منه بغفوةٍ تخلو من الأكدار التي
أقرَّها في نفسي ذلك الألم. كلُّ ذلك يسعدني أحياناً كثيرة، لا لشيءٍ خارجٍ عن
إطار العقل والمنطق؛ ولكن لأشعرَ بأنني في جانبٍ مُظلمٍ أُنيرُ كإنسانٍ ما زالت الإنسانية
تصبُّ فيه بعضاً من ماء ينبوعها الصافي، ولا يكدره وإن بغفلة.
هذا ما كنتُ أشعرُ به وأذرع
ساحاتِهِ منذ أن أباتَ البئرُ في أحشائه ( لمى ) تلك الطفلةُ التي أستهجنُ فيها
قولي " تلك الطفلة "؛ لأنها في عيني أقربُ من " تلك " وأبعد
في محبتي من كثيرٍ أودعت الحياة نسماتهم في قلبي.
أعادتْ ( لمى ) مجرى إنسانيتنا
المتردِّم حين وخزتْ بطفولتها وبرائتها قلوبنا فأدمتنا أكثر مما لو كانت أكبر من
ذلك الطور العُمُري الذي هو في حقيقته غايةُ الأطوار والمراحل كلها في أن تبقى
الفطرة كما هي نقيةً طاهرةً لم يأتِ على طرفٍ من أطرافها تلوثُ الحياة أبداً.
( لمى ) التي كلما نظرتُ إلى ابنتي
ودميتها، أحسستُ بأنَّ قلبي يُنتزعُ من مكانه مرتين: واحدةٌ على الخيال المُرِّ
الذي يراودني عن تجرُّعِهِ قريباً مني، وأخرى على ( لمى ) حينما أغور في تفاصيل تلك
الرمال التي ابتلعتها، والدميةِ التي وددتُ ألَّو حملتْ بين جنبيها روحاً لم تخلق إلا لتؤنسَ ( لمى ) في تلك الغياهب من
الجُبِّ!
كنتُ أموتُ على أن أستبشرَ
بحياتها، منذ سادسِ يومٍ مشؤومٍ علقت فيه؛ لكن ذلكم الخبر طال انتظاره حتى بلغ
اليوم التاسع عشر حين علمتُ بأنهم عثروا على أشياءَ / أشلاء منها...
تعتصرني لوعةٌ، وترهصني حرقةٌ كلما
ركض حدسي صوب استغاثتها وقد كان من الممكن أن تنجوَ لولا قضاءُ الله في ذلك
الإخفاق في انتشالها، وقِصَر اليدِ التي امتدَّت لها لتنقذها.
نعم، هو قضاءُ الله وقدره لا شك في
هذا؛ لكن القضاء لا يكون قضاءً نُسلَّم له بالتقصير والعجز، كان من الممكن أن
يعْتدَّ ( الدفاع المدني ) لمثل هذا ويتأهب، وكان من الممكن أنَّه إذا شَعُرَ
بعيبٍ ما في آلته وأداته وفكرته أن يستعين بما لدى غيره منها من قريبٍ أو بعيد،
وكان من الممكن أيضاً أن يُدركَ بأنَّ ما تحتَ هذه التُربةِ روحٌ منَّا لنتداعى
لها بخيلنا ورجْلنا!
وداعاً لمى..
وداعاً يا صورة الآخرةِ بوجهها
الحسنِ في روحكِ الطاهرة التي حلقت بنا حول الجنان، وبهولِها وفزعِها الدائبِ في
فوهةِ بئرك المتربِّصة، وجورابك ودبدوبكِ الخالد!
وداعاً بُنيَّتي.. ستظلَّين عالقةً
في أحشائنا وجعاً لا يكاد يخفُّ قبل أن تكوني غصَّةً على كلَّ من منحه اللهُ قدرةً
ولم يصبّها في استطاعته!
إلى اللقاء بٌنيَّتي..
اذكرينا عند ربِّك!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق