الجمعة، 2 أكتوبر 2015

ظلٌّ وريح.. وأمنيات

     




تنفلقُ هالةٌ من القمر عنكِ، فتهوين على كتفي نجمةً تدلني من بعد غيابٍ طويلٍ على أثركِ الخالد في طرقات غيابكِ الشائكة، تلك الطرقات التي يعرفها قلبي جيداً؛ لكنه لم يهتدِ بها يوماً إليكِ.
وينشطر الزمن عن وقتكِ الفاتن معي، فأقتسمُ وإياه شيئاً مما في يديه من لقاءاتنا العابرة، وعبثنا البريء تحت المطر، وأصابعنا المتشابكة في شباك نافذتك، والرياح التي تتهادى بخصلات شعرك وأطراف لهفتي، كنا نسميها " حنين " أتذكرين؟  جبينكِ حينما يمسُّ جبيني فأذوب جراء ذلكم المسِّ الحاني وأغمض جفني أستقل غفوةً تسعى بي إليك في الحلم، إذ كان الواقع أرحب من أن يدركه عقلي وأنتِ بين يدي أميرة في كل شيء حتى في هذا الغياب اللعين.
وينكفئ المكان على موضع أمنيتي الباقية في لقائك، تلك الأمنية التي لا تنفك تندلق على نفسها كلما شعرت بهاجس الفناء يصيبُ الأشياء دون أن تكون له يدٌ على وداعك خاصةً؛ فيطويني الشوق ويريني مدَّ بصري مكاني من جنتك، أجدني؛ لكنني أموتُ خوفاً وجزعاً وشكًّا من ألا أكون أنا من يعبر تلك القناطر المذهبة فوق نهر الذاكرة القديمة بصحبتك، كان اختلاءً أبدياً لطالما حلم به كل عاشق؛ لكنني لم أكن أنا ذلك الفتى على وجه الدقة؛ لأنني كبرتُ في نصفه المنتمي لي، ولأني لستُ نصفه الآخر أبداً.
وينصدع البينُ فلا يأتي بك، وينقشع الغيم عن نجمةٍ أخرى ألقحت رغبتي الصافية في بوصلةٍ تالفة ما كانت لترشدني إليك قطعاً.
وتنفطر كبد الصبر عن إيمانٍ ضعيفٍ بكل شيء، بدءاً مني وانتهاءً بكِ، برجوعك، بوجودك الحقيقي، بطيفك الزائر، بأحلامك التي ما زالت صبيةً تركض في ذاكرة الزمن المفقود.

ويُنكأ الجُرحُ كلما عرض لي أملٌ يعدني ويمنيني، وكلما انبعثت فكرة رماديةٌ تشي لي بعاقبتها مما أخوضه وحدي عقب تلك الحياة التي أطل عليها من شرفة الموت البطيء. ولا أبرأ لأن لا شيء يحدث، الجمود يخيم على التفاصيل فضلاً عن المجمل فكيف لي أن أنخرط في حياةٍ هامشها ومتنها واحد.
ويستمر الألم، وتمضين أنتِ محفوفةٌ بظلي الشاحب، وريحنا تلك التي تذكرين، وأمانٍ ما أشرقت عليها الشمسُ بعد، وبجنةٍ كئيبةٍ معلقة بأشواقي، وبموتي، موتي الذي لا ينتهي يا حبيبتي.


الثلاثاء، 8 سبتمبر 2015

راحلة الأماني / شعر

لا تسلْني عن الأماني ولكنْ
اسأل الصبرَ: كيف ضاقت سمائي؟!
واسأل النجمَ: كيف بات قريباً
من جفوني كأنَّهُ في رثاءِ
شَدَّتي أنني إلى الحُلمِ أمشي
في رخاءٍ، فيستحيلُ ورائي
وإذا ما طرقتُ باب نجاةٍ
لم يجبني إلا نشيجُ رجاءِ
أُشْرِبَتْ نفسيَ الرَّجاءَ مشوباً
بالتفاتاتِ الراحلين إزائي
من بنى بينهم وبينيَ سدٍّا
من قضى بيننا بهذا التنائي؟!
أعبرُ اليأسَ من مِجَسَّاتِ خوفي
فمضى العُمرُ خيبةً في اقتفائي
لستُ أدري، فلا تسلني إذا ما
كانت الأمنياتُ أصلَ بقائي
أصلَ آهاتي، وانقباضي، وهمِّي
وجْهَ غاياتي، وافتراضَ فنائي
أنا يا صاحب الملامِ مُضاعٌ
ما لهُ في الحياةِ من إيواءِ
فاتني الحظُّ مثلما آمالٍ
عَرَضَتْ لي فلم تُصبْني بماءِ
أيُّهذا الصباحُ أيُّ طريقٍ
ساقنا للقاءِ ذات مساءِ؟
إنها روحي تعتلي ريشتينٍ
من خيالٍ يوماً على الأعباءِ

الأحد، 2 أغسطس 2015

شقيقُ الروح.. صديقي

                                               

بعيداً عن المفاضلة بين الصديق والصاحب والفروق بينهما، أجد أنه أمرٌ عظيمٌ تزخر به حياةُ كل إنسان حين يحظى في هذا الزخم من الكون الممتد بتفاصيل لا نهائية من ممارسة البشر حقوقهم الطبيعية في أن يكونوا أناسيَّ يعضد بعضهم بعضا ليسيروا بشكلٍ أو آخر قدماً في معتركهم مع ثنائية الحياة والموت، أقول إنه أمرُ عظيم أن تحظى في خضم تلك المنفعة الطبيعية المادية على منفعةٍ أرفع منها درجةٍ وأسمى؛ أرفع لأنها الوسيلة المحددة إلى كمالٍ من نوعٍ خاص، كمال لا يسع إلى أن يكون كمالاً في التجانس والتآلف الروحي، وأسمى لأنها تختص بالأرواح ولا علاقة لها بما دون ذلك، وعليه فإنني لا أستطيع في كثير من الأحيان أن أتصورني واقفاً على هذه النعمة من دون أن تكون سابغةً عليَّ، أو لا أشكر الله فضلها.
يحدث أن أشعر بالوحدة في أوقاتٍ قد لا تكون قليلة، ويحدث أن أتخيلني دون دثارٍ روحي حين أصطدم باضطرابٍ ما؛ لكن الدنيا هذه ليس بوسعنا أن نعبرها بأقل درجةٍ من السلام دون صديق حقيقي.
نعم، صديق حقيقي، يصب قالبه في روحي فنموت ولا تموتُ الألفة أبداً. يسعني كلما ضاق بي الفضاء أو حزبني أمر، يختصر الزمن، يملأ العمر، تسبق حيلته مكر الصروف إليَّ، وضحكته أثر الذاكرة العالق الذي لا يأتي بخير.

الصديق هو معناي الحقيقي من الإنسانية في كيفية تعاملي مع الآخرين، هو لوحةٌ إرشادية أتفاءل بها في طريق مجهول معتم أقطعه وحدي، هو هواءٌ قديمٌ يحفُّ بي كلما شعرتُ باختناقٍ جديد، هو ظلي من الشمس، وسامريِّ من القمر، هو فوق ما في نفسي من المعاني النبيلة الشريفة التي أعرفها وما لم أعرف.  

الأحد، 19 يوليو 2015

لم أعد أغني

أصدح بصوتي من قبل، أملأ به أرجاء الدنيا، الدنيا التي تستوطنُ نفسي ويحدها صمتي المُريب. كنتُ أغني، ولا يطيب الغناء إلا لمحزون، فكنت أبثُّ به شيئاً من العوالق النامية، وأثراً من الندوب الباقية، وكنت أغني.
أسمعُ العالم المرئي القريب، أسمعه شيئاً من الألحان التي تنساب على قلبي كما ينساب نسيم روضةٍ غنَّاء إلى صدري، وفيه بساط الأحبة المنسوج بأشواقهم، ورائحة الذكريات البيض التي تمسها يد الحنين، وشيءٌ من البُشرى بسعادةٍ ما، لا تعلمُ لها سبباً ولا باعثاً سوى أنك هنا في هذه الروضة تنعم ولا يجدر بك أن تنشغل في أمرٍ عنها.
وكنتُ أغني، أستعذب الآلام والآمال أن تمتزجا في دم الوقتِ فيضخه في عروقي حياةً جديدةً دائمة في عين العاشقين، لا يعرفها ولا يألفها سواهم، تلك العين التي يصادق على عماها المتكلمون في الهوى؛ وما علموا بأنه عمىً محمود إذ كان طرفُها قاصراً على الحبيب لا ترى إلا إياه بالصورة الحسنةِ ذاتها التي يحررها القلب دائماً عقب أول التقاطةٍ لها في سواده، حتى تصبح جديدةً في عينيه دوماً، جديدةً في انبعاث المشاعر، جديدةٍ في العمر الجديد ذاته.
وكنتُ أغني
لأني ما إن بدأتُ أخطو على الحرير حتى تعثَّرتُ في خطوتي، نسل خيطٌ من ذلك القماش الناعم فطوى البقية وضاق الطريق الجميل عن أن يحتملني، فبقيتُ أغني، أرصف الكلمات منذ أن أخطرني ليلٌ - لم يتصالح مع نفسه وشقَّ عليه أن ينتمي - بأن النور لا يُهتدى إليه إلا بنور، انظر إلى الشمس كيف لها أن تشرق ولمَّا يتنفس الصبح، وكيف للصبح أن يفرد جناحيه على الكون ولم ينفض السحَر بعضاً من أثر الليل العالق في الفجر، وهكذا، إن النهار والليل لا يلتقيان وإن تعاقبا.
منذ ذاك وأنا أرصف الكلمات وأهزُّ دلالات اللغة فأجريها على الألحان صوتاً تنفخ الطبيعةُ فيه من روحها، روحها التي تحلم بالخلود؛ لكن يعكر المنطق عليها ذلك، فيرتكز الضدان في ذاتها، فهي بين أن تشقى برجاءٍ، وأن تسعد بما دون ذلك.
وكنتُ أغني
لأني بين أن أتطلع وتتمنع هي على الطرف الآخر، بين أن أتقدم وتتأخر عني قليلاً، بين أن أتحسس مشاعري فأستشعر منها وتستشعر مني، بين أن يذرني الهوى معلقاً بأرجوحة في فضاء أمانيه وأحلامه، كنتُ أغني لذلك الجرحِ أنكؤه بعد بُرء، لأنني لا أود أن أشيح عن تلك الروضة، فلا أجد من ثمَّ أذناً واعيةً تصغي لي، وكنتُ أغني..
حتى إذا ما أطلَّ فصلٌ من العمر، تذوب به رقاقة ذاك الهوى، وتأوي إليه القلوب، قلوب العُصاة تلمَّظها فم ذاك الحنين، ساقني القدر إلى ما يشتهي، إلى ما يرقع ذلك الشق من العاطفة فوقف ثوبها في نفسي بشكِّه وتطريزه وأناقته وانبعاثاته البديعة في عين الناظر؛ لكنني لم أجدني رغم هذا الإغداق والبذل قادراً على الغناء، كنتُ كلما أردتُ أن أصدح بذاك الصوت سمعتُ ما لا أعرفه منه غارقاً في نشازٍ عن صوته هو نفسه قبل أن يكون ذاك مع المعنى والكلام تماماً كما يحدثه طائرٌ - لا يطير في الأصل - بترنيقه، لا يستطيع أن يتجاوز ذلك أبداً.
وكنتُ أغني، أصدحُ بما للحزن في قلبي، للشوقِ في صدري، للحنين في خاصرتي المطوقةِ بذراعه، للهمِّ يعصب راحتي الجاثمة فوق طموحٍ لم يتغير لونه، وأشتكي في مسافة ذلك السلم الموسيقي بحة صوتي لصوتي الذي واراها فيما بعد خلف سوءة الاعتقاد بالهدوء الذي ينبغي أن تكون العاطفةُ عليه في ذلك الفصل الآنف، وعليه استبقتُ الغناء حتى لا تتلكأ سانحةٌ من الماضي فيما بعد أن تطرق باب أذني بصوتي الأول، ذاك الذي يغني للحبِّ، ثم لم يعد يرفع صوته بعد ذلك.
وكنتُ أغني.

الاثنين، 6 يوليو 2015

صباح الخير / شعر

صباح الخير

صباحُ الخيرِ يا عمْري
صباحُ الوردِ والزَّهْرِ

صباحُ الأمنياتِ البيـض (م)
في خيطٍ من الفجرِ

صباح الشوقِ مضطجعٌ
على حُلَلٍ من الشِّعْرِ

 صباحُ الفتنة الكُبرى
صباحُ صباحكِ السحري

صباحكِ أنتِ مُختلفٌ
يُجاوزُ نشوةَ الخمرِ

بهِ دنيا تراودني
عن الوجع الذي يطري

عن الدنيا التي تمتـار (م)
في أشلائها عمري

عن الأحلامِ والأوهامِ (م)
تسرقني ولا أدري

تراودني عن الليل (م)
الكئيبِ وكلْتُهُ أمري


صباحُكِ يا صباح الناس (م)
مذ أشركتهمْ سرِّي

يزاحمني على روحي
فيغلبني، على قدري

ويغمرني بأسبابٍ
أذودُ بها عن الدَّهرِ

أيا تأويل غاياتي
وتعليل الهوى العُذْري

أنا استودعتُك الإنسان (م)
في نفسي على طُهرِ

وأيامي التي تمشي
على استحياء بالبِشْرِ


فخلِّي لي صباحَكِ أستعيـن (م)
بهِ على العُسرِ

الثلاثاء، 23 يونيو 2015

" تالا " لا تريد أن تكبر

" لا أريد أن أكبر " بالقدر الذي يؤلمني معناها بالشعور بالكبر فضلاً عن الكِبَر نفسه إلا أنها تقف غصةً في حلقي حينما ترددها ابنتي تالا، كلما وعدناها بتحقيق شيءٍ لها مستقبلاً، أو عرضنا أمامها ما يخصها لمرحلة عمرية لاحقة. لستُ أدري أفكر ملياً وجلياً في مسوغ تلك العبارة لمن هم في أعمارنا ممن انتصف شبابه وتهيأ لأن يستقبل كهولةً ما، إذ ذاق من نعيم الشباب ــ ولو لم يكن من نعيمه إلا أن يخلعه على نفسه بزينته ولذاته وقوته وبسطته ــ ما يجعله لا يودُّ أن يُفطم من رضاعة هذه المرحلة تحديداً؛ لكن كيف هو حينما تتمناه طفلةٌ صغيرة لم تتجاوز الرابعة من عمرها بعد؟!
حين تردد ذلك غاضبةً وصائحة أتهادى بألمي وأتذكر أحد الأصدقاء وقد تمنى ألا تكبر ابنته، وهذا لا يعني ـــ عند بعض المتشائمين ـــ رجاءً ما، أو دعاءً بالموت، ولكن أن تبقى طفلة بكل ما فيها طوال حياته، وإن كان في هذا نوع من الأنانية بالنسبة إليه إلا أنه هو ذاته ما تطلبه تالا الجميلة، رغم أنها لا تعرف البراءة ولا الوداعة ولا سرَّ ذلك الخلود المرتجى في هذه الأمنية؛ لا تعرف منهم إلا نفسها، نفسها التي تعني كل تلك الدلائل الفطرية الجميلة وأحبَّت ألا تفقدها على سبيل العمر وهو يمضي.

ألمي يا ابنتي هو في إحساسك بذلك، وليس فيه نفسه كما قلت؛ لأن هذا مما يثقل كاهل الكبار فكيف بكِ يا حبيبتي؛ لكنني وبداعٍ من فطرتك تلك التي تمنت أن تدوم لحظاتها الجميلة دون بعد نظر أعدك أننا سنعمل جاهدين على ألا تشعري بذلك الكبر أبداً، أنت طفلة، وستظلين طفلةً في عين أبيكِ إلى يموت.

الثلاثاء، 20 يناير 2015

الصورة / شعر


قَسَماتُهُ، نَظَراتُهُ الموتورة
آلامُهُ تلك التي في الصورة 
خيباتُهُ أمسى يُرتِّبُها مُنىً 
فتبعْثرتْ من نفسهِ المكسورة 
ضاق الفضاءُ بحلمهِ، فتساقطتْ 
كِسَفاً عليه سماؤهُ المكدورة 
لا أنجماً ترعاهُ، لا أنشودةً 
للغيمِ في أشعارهِ منثورة 
لا ظِلَّ يعرفهُ، ولا أصداؤه 
تصغي إليه فمن يخُطُّ سطوره؟ 
لا شيءَ يُبْهِجُهُ سوى إنسانهِ 
في أوجِ غَضْبَتِهِ يمُدُّ جُسورَهْ 
ميقاتُهُ في الشارعِ المهجور سقيا 
رحمةٍ من حكمةٍ مأثورة 
فات الأوان على قريحته فما 
عادتْ تجودُ بما يبُلُّ شعورَهْ 
في جيبهِ وطنٌ على شُرُفاتِهِ 
نصٌّ يتيهُ بفكرةٍ مأجورة
كلُّ البُنى فوقيةٌ في غَيِّهِ 
لكنها في رشدهِ مطمورة
ما زال رَغْمَ شتاتهِ متشبِّثاً 
في ثوبه، متمنطقاً دُسْتورَهْ 
رُفَقاؤهُ: حظٌّ بئيسٌ مُقْعدٌ 
وملامةٌ ممشوقةٌ ممكورة
كم ودَّ أن يَهِبَ الطريقَ طريقةً 
يعصي بها خُطُواتِهِ المأمورة 
سيغيبُ؛ لكنْ ليس في إمكانهِ 
أن يسْتهِلَّ من الغيابِ حُضُورَه 
باقٍ على موتٍ يُناوشُ قلبه
ونجاتُهُ محصورةٌ في الصورة!