الأحد، 18 يونيو 2017

عن حياة الرافعي أتحدث



حياة الرافعي، السيرة العطرة التي ما إن انتهيت من قراءتها حتى امتلأت بها مجدداً ــ وكنت قد قرأتها مرةً قراءة إلكترونية أوشكت فيها أن أتم الكتاب ــ بذلك الجو الأدبي الخلاب الذي كان عليه الرافعي وأدباء عصره.
لي مع الرافعي حلقة تدارس خاصةً بيننا، مفعمة بالمودة والمحبة والفهم الذي لا يكاد يطول، حين أمسكت بهذا الكتاب، لم أجعله بين يدي وأنا قد سمعت نتفاً عنه من هنا وهناك، أو عرضت لي منه مقالة في أحد كتب الأدب، أو مدحة لمحب، أو مذمة لخصم، كلا، فوقوفي عند هذا السفر جاءً بعد زمن معرفة، ومدى مدارسة، وغاية عشرة، وحلقة من علم البيان لم تنته ولن تفعل، بداية من " تحت راية القرآن " إلى الجزء الثاني من " وحي القلم " تخللته بينهما سلسلة من كتبه الراجحة بعباراته الرنانة، وبيانه الجزل، وجمله المموسقة في أكثر من كتاب بين الأدب والنقد والحب والهجاء.
يعرض العريان ـ رحمه الله وهو تلميذ الرافعي النجيب ـ مشكوراً في هذا الكتاب أشياء مما كانت يجب فيها القول والتقريظ لهذا الإمام، ثم هو يستنكر على الأدباء المعاصرين، المنافسين منهم والأصدقاء والمحايدين، ألا يقوموا بشيءٍ من واجب هذا الرجل، وحقه عليهم وعلى الأدب والعربية، ولا يفوته أيضاً أن ينعى عليهم تقاعسهم عن القيام بواجب العزاء للفقيد حتى وإن كان بينه وبينهم من الخصومة ما يوجب العداء، فكيف بأصدقائه منهم، ومن لم يكن بينهم وبينه تشاحن. يعترف العريان أثناء ذلك أن العميد " طه حسين " كان أشرف خصومه حين بعث بعد موته لأهله برقية عزاء. 
من نسبه ومولده لوصف صورته ونشأته وعلمه وثقافته يمسك العريان بزمام هذه السيرة التي ارتأى أن عليه الحق الأكبر في القيام بها معتمداً على صداقته بالرافعي ومعرفته بأهله الأقربين وأصدقائه ومريديه.
تحدث عن شعره وكيف أنه رجلٌ تتملكه الغيرة الأدبية الشديدة والمنافسة الشرسة حين أراد أن يصاول وينافس أكبر شعراء عصره، وقد كان حافلاً أي احتفال بأميرهم أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، والبارودي والكاظمي، وعبد الرحمن صبري وغيرهم، وكان يرى في نفسه القدرة البارعة على منافستهم ومناجزتهم وتجاوزهم، فأنشأ مقالة دون أن يذكر اسمه عليها: يبدي رأيه في الشعراء، ويصنفهم فيها على طبقات، واضعاً نفسه في الطبقة الأولى، وهذا إعلانٌ ماكر منه عن نفسه تبرزه نفسه الطموحة، وموهبته الغيورة، على أنه من زاويةٍ أخرى اعتداد كبير بنفسه، وجرأة ــ ربما حتى وهو لم يذكر اسمه ــ كبيرة في أن ينتقد ويصنف شعراء عصره العمالقة.
من هنا، من هذه الورقة التي كتبها، كان انبعاث الشرارة الأولى لإنشائه البليغ، لنثره الفني البديع، الذي أخذ بلب خصومه قبل محبيه، ليبتدر بعدها في إنشاء كتاب " تاريخ آداب العرب " الذي ابتدرت له الجامعة المصرية إبان إنشائها وجعلت له الجائزة الكبرى إلى أجل مسمى، وكان للرافعي لذلك الاقتراح سهم وسبب حين كتب مقالاً يحمل فيه على الجامعة وأساتذتها ومنهج أدبها لتجتمع فيما بعد لجنتها الفنية لتأخذ بتلك الدعوة، وكان الرافعي يطمع حين نذر لكتابة ذلك الكتاب أن يفوز بمنصب التدريس في الجامعة، على أنه كما يقول العريان لم يرتضِ أن يقدمه للجنة ترفعاً منه أن يحكم عليه من هو أقل شأناً منه.
هذا الكتاب الذي قال عنه طه حسين إبان صدوره ومع وطأة المنافسة ربما حينذاك أنه يشهد الله أن لم يفهمه، ثم يذكر بعد ذلك بوقت رأياً آخر فيه في كتابه " في الشعر الجاهلي " مفاده: "أن لم يعجبه أحد ممن ألفوا في الأدب إلا الأستاذ مصطفى الرافعي لفطنته لما يمكن أن يكون من تأثير القصص في انتحال الشعر وإضافته إلى القدماء، كما فطن لأشياء أخرى قيمة وأحاط بها إحاطة حسنة في الجزء الأول من كتابه".
ثم اندلعت بعد ذلك المعركة الشهيرة بينهما وإن كانت لها بوادر حين رد الرافعي عليه بمقالات ضمنها كتاباً فيما بعد سماه: " تحت راية القرآن " ينكر فيها عليه هذا المذهب المبتدع في الدين والقرآن. 
الإشارات التي يذكرها العريان عن معاركه مع طه والعقاد لم تكن مجزئة للقارئ النهم الشغوف بمعرفة أحداث تلك المعارك، وبما آلت إليه حقيقة؛ لكن العريان ــ وأحسبه كان كذلك ــ رغم أنه تلميذ الرافعي المقرب، وصديقه المحبب إلا أنه لم يجاوز الحكم في تلك المعارك بعاطفته التي بينه وبينه أستاذه وصديقه، إنما ترك الرأي فيها لمن حضرها ولم تكن بينه وبين أحدهما صلة تدفعه لأن يحكم بها على الآخر، وقد انتقد أستاذه في حدته وخروجه عن الطور المعقول في كتابه على السفود حين مسك بتلابيب العقاد.
يقف بعد ذلك في عدة فصول عن الرافعي العاشق، المحب، ويذكر كتبه: حديث القمر، رسائل الأحزان، السحاب الأحمر، أوراق الورد، ويذكر قصة بينه وبين الأديبة مي زيادة، يردها صديق الرافعي القديم جورج إبراهيم، ويذكر ــ العريان ــ أن الكثير لا يعتقد بصحة روايته تلك حين كتبها في الرسالة؛ ولكنه يمضي قدماً نحو ذلك ويؤكد أن الرافعي دق قلبه لها، ويورد لذلك بضع حجج قد لا تثبت؛ لكنها لا تنفي، غير أنها تؤكد أنه كان من طرف الرافعي حين وقف به في ذلك الزقاق أسفل تلك النافذة ليتحدث بحنينه إليها، ثم يتحدث في الفصول الأخيرة عن نقلة الرافعي الاجتماعية حين كتب للرسالة وتواردت عليه رسائل القراء، وهو الذي كان من قبل في عزلةٍ عن الناس إلا القليل منهم.
الكتاب فيه الكثير مما يتمنى أن يكتشفه محب الرافعي والأدب عن حياته وطريقته في الكتابة، وازدهار قلمه إبان فترة عصر النهضة، وعلاقته المتباينة مع أدباء جيله، وأكثر من ذلك مما تخفيه السطور، قام بأثقاله وتركته المكتنزة بالعلم والفكر تلميذه النجيب صاحب القلم المتدفق، السرد السلس المشوق، محمد سعيد العريان الخارج من عباءة الرافعي الأدبية الواسعة، فشكراً له ولإمام العربية مصطفى صادق الرافعي. 

الأحد، 7 مايو 2017

عافية الأمل

أتعلمُ يا صاح بأنني لو طوعتُ القلم بعد عصيان، وغشيتُ الأحرفَ بعد عفة، وهززتُ أغصان المشاعر بعد ثباتٍ فيما أكنه لك من عميقِ ألفة، ومن غائر ثقة، ومن سحر محبة، ومن مودةٍ لا سقف لها، لرأيتُ أنّه من حديث الإشارة، ومن نقص العبارة، ومن بوحٍ كان الكتمان أفصح منه، ومن إبانةٍ كان في إضمارها جميل منطق، على أنني أرى من شموخ ذلكم الصمت أنفَةً يزينها قليلٌ من الإذعانِ لبضع ورق، عله ينصع حينما يقبل عليه الفكر كتابة، لا أن يجلبه العقل حديثاً شفهياً، وعلى كُلٍ فاللغةُ وإن كانت تسع المعاني، وتوجز الأحداث، وتحصرُ الزمن، إلا أنَّها لا تملك من حقيقةِ سعتها تهميشاً لصادقٍ من الإحساس، وإجمالاً لتفصيلٍ من المشاعر، وأن تضعها في الحيِّز الممتلئ منها بما هو متشابه أو متوائم.

آهٍ يا صاحبي، ما أشدَّ بؤسي وأنا أنظر إلى نفسي وهي عاجزةٌ أن تسقيك جرعاً من ماءِ الحياة الذي ما حسبتْ أنَّك في ظمأٍ له، إلا أن تكون تلك البائسة ـ وهي نفسي ـ على بعد خطواتٍ من الدنيا؛ لكنني أحمدُ فيها جزعها وهلعها على أن يصبحَ بعضاً منك على عتبات الهلاك، وأشكر فيها حزنها وكآبتها أن تراك بمظهر من يتعززُّ عليها بالوداع من الدنيا، وأيِّ بلاءٍ هذا الذي ابتليتْ به يا صاح.
والله لو أنَّك وصلتَ فيَّ الهجر، وقطعت في البعد عني أراضين سبع وأنت بتمام صحةٍ وعافية، لما فعلتَ بي كما فعل مرضك هذا في نفسي عليك!
ووالله لو أنَّك بغضَّتَ إليَّ نفسك بكلِّ باعث، وحبَّبتَ إليَّ صدك بعظيمِ تجاهل، لما كنتَ معي كما كان سقمك هذا حين أثقل صحبته علي.
أعلمُ يا خليلي أّنك تدري بكثيرٍ لك لا يحصى لديَّ؛ على أنَّ الأكثر المُحصى لم تتوغل فيه مداركك، إذ إنه مكنونٌ إلا عن أشياء من نفسي، هذا وأنت أنا على كلِّ اعتبار، بيد أنّي سأكرر لك  ما تعرفه، بروحٍ من الكلام الذي لا يقال وهو يقال إلا على ثلمة لسان، وأثر غصة.
أتعرف، هناك من يختصر عليك زمن الصداقة، وقديم العشرة، وماضي الألفة، بأيّامٍ معدودة، لا يحسبُ فيها عقلك مدةً كافيةً لسبر غور رجلٍ أقبلتْ على تعارفه روحك، وتهللت لائتلافه مهجتك؛ فكنتَ أنت ذلك المختصر. أنتَ يا صاح لا مثيل لك عندي، ولا غنى عنك لي. أنت أيها الخليل أملٌ انبلج مما لم يستطع خيالي أن يأتي على قريبٍ له في البهجة، ومثيلٍ له في الفرج. باختصار: أنت روحي في جسدٍ آخر.  
ولا ريبَ أنَّه قضاءُ الله سبحانه وتعالى، وما لنا بدٌّ من أن نرضى بقضائه وقدره بنفسٍ راضية، وما تدري لعلَّ في حادثك ذا خيراً وهو كذلك إن شاء الله.

شفاك الله أيها الحبيب، وعافاك!.