أتعلمُ يا صاح بأنني لو طوعتُ القلم بعد
عصيان، وغشيتُ الأحرفَ بعد عفة، وهززتُ أغصان المشاعر بعد ثباتٍ فيما أكنه لك من
عميقِ ألفة، ومن غائر ثقة، ومن سحر محبة، ومن مودةٍ لا سقف لها، لرأيتُ أنّه من
حديث الإشارة، ومن نقص العبارة، ومن بوحٍ كان الكتمان أفصح منه، ومن إبانةٍ كان في
إضمارها جميل منطق، على أنني أرى من شموخ ذلكم الصمت أنفَةً يزينها قليلٌ من
الإذعانِ لبضع ورق، عله ينصع حينما يقبل عليه الفكر كتابة، لا أن يجلبه العقل
حديثاً شفهياً، وعلى كُلٍ فاللغةُ وإن كانت تسع المعاني، وتوجز الأحداث، وتحصرُ
الزمن، إلا أنَّها لا تملك من حقيقةِ سعتها تهميشاً لصادقٍ من الإحساس، وإجمالاً
لتفصيلٍ من المشاعر، وأن تضعها في الحيِّز الممتلئ منها بما هو متشابه أو متوائم.
آهٍ يا صاحبي، ما أشدَّ بؤسي وأنا أنظر
إلى نفسي وهي عاجزةٌ أن تسقيك جرعاً من ماءِ الحياة الذي ما حسبتْ أنَّك في ظمأٍ
له، إلا أن تكون تلك البائسة ـ وهي نفسي ـ على بعد خطواتٍ من الدنيا؛ لكنني أحمدُ
فيها جزعها وهلعها على أن يصبحَ بعضاً منك على عتبات الهلاك، وأشكر فيها حزنها
وكآبتها أن تراك بمظهر من يتعززُّ عليها بالوداع من الدنيا، وأيِّ بلاءٍ هذا الذي
ابتليتْ به يا صاح.
والله لو أنَّك وصلتَ فيَّ الهجر، وقطعت
في البعد عني أراضين سبع وأنت بتمام صحةٍ وعافية، لما فعلتَ بي كما فعل مرضك هذا
في نفسي عليك!
ووالله لو أنَّك بغضَّتَ إليَّ نفسك
بكلِّ باعث، وحبَّبتَ إليَّ صدك بعظيمِ تجاهل، لما كنتَ معي كما كان سقمك هذا حين أثقل صحبته علي.
أعلمُ يا خليلي أّنك تدري بكثيرٍ لك لا
يحصى لديَّ؛ على أنَّ الأكثر المُحصى لم تتوغل فيه مداركك، إذ إنه مكنونٌ إلا عن
أشياء من نفسي، هذا وأنت أنا على كلِّ اعتبار، بيد أنّي سأكرر لك ما تعرفه، بروحٍ من الكلام الذي لا يقال وهو يقال إلا على ثلمة لسان، وأثر غصة.
أتعرف، هناك من يختصر عليك زمن الصداقة،
وقديم العشرة، وماضي الألفة، بأيّامٍ معدودة، لا يحسبُ فيها عقلك مدةً كافيةً لسبر
غور رجلٍ أقبلتْ على تعارفه روحك، وتهللت لائتلافه مهجتك؛ فكنتَ أنت ذلك المختصر. أنتَ يا صاح لا مثيل لك
عندي، ولا غنى عنك لي. أنت أيها الخليل أملٌ انبلج مما لم يستطع خيالي أن يأتي على
قريبٍ له في البهجة، ومثيلٍ له في الفرج. باختصار: أنت روحي في جسدٍ آخر.
ولا ريبَ أنَّه قضاءُ الله سبحانه
وتعالى، وما لنا بدٌّ من أن نرضى بقضائه وقدره بنفسٍ راضية، وما تدري لعلَّ في
حادثك ذا خيراً وهو كذلك إن شاء الله.
شفاك الله أيها الحبيب، وعافاك!.
هذا النص تقريباً قبل تسع أو عشر سنوات.
ردحذف