الأحد، 15 نوفمبر 2020

كائن نهاري - قصة قصيرة

منذ أن أصبحت كائناً نهارياً وأنا أتقيأ الليل مرةً كل أربع ساعات من لحظات الصباح الأولى حين أستيقظ إلى أفول الشمس عندما أنعم بغفوتي الكبرى. وفي المرات التي لم أكن فيها قادراً على التقيؤ، أخرجه في الحمام سائلاً متخثراً بمواد شمعية قريبة من اللون الأخضر، وكنتُ حين أصاب بإمساك إضافة إلى غثياني المتبقي من عدم قدرتي على التقيؤ، أتخلص منه بطرقٍ أخرى: أتعرقه أحياناً قليلة؛ أطبعه بسبابتي وإبهامي الأيسر على صفحات بيضاء فارغة كنتُ أعددتها فراشاً وثيراً لأحلامي الصغيرة، تجف من ثم الصبغة لتصبح كلماتٍ أستطيع قراءتها على ضوء الشمس. تنمو وتنسل بمرور الوقت فتصير كتاباً مهيباً يقف على رف مكتبتي النهارية. حين لا يحدث أي من تلك الأعراض، تتحول بشرتي السمراء المشربة بأحمر إلى سوادٍ كثيف متجهم ينفر منه من حولي. لم يسبق أن رآني أحد بذلك الشكل سوى الخادمة التي كانت ترسلها أمي كل أسبوع لتنظف شقتي الصغيرة. لم تجرؤ على المجيء بعد ذلك، ولم ترسل أمي خادمة أخرى بعدما اعتقدت ــ حسب ظني ــ أن الأمر لا يعدو تحرشاً جنسياً.

كنت أتخلص من الليل بطريقة غير مألوفة، كما أنها غير إرادية بادئ الأمر وهذا ما جعل الأمر أشبه بتحولي بطريقة بشعة إلى آلة أو أداة لقوى غير طبيعية أرفض الإيمان بها؛ وهذا ما كان أكثر قسوة بالنسبة إلي.

فيما بعد تحول الأمر تدريجياً إلى تفاعل إرادتي مع ما يجري، وجدتني أقتصر على سماع أجنحة الملائكة ترفرف عبر صوت فيروز. زرعتُ حديقة مصغرة جانب العمارة في الأرض الخلاء. اشتريتُ زوج بلابل وكناري، لم يلبثا سوى يومين حتى أطلقتهم محتفظاً بأقفاصهم كذكرى جميلة، كنت قد سجلت تغاريدهم في هاتفي. كتبت شعراً حالماً على غير العادة حين تحولت تلك المكتبة الصباحية التي يمتلكها ذلك العجوز العقيم لمقهى صباحي أشرت عليه به، كنت ــ قبل أن أكون هذا الكائن النوراني الذي أعتقده ــ ألتقيه في عددٍ من الصباحاتٍ التي لا أبتدئ بها يومي بالأحرى، وكان على فراغه الذي آنسته منه لا يفتحها في غير الصبح أبداً. وصلتُ أمي وأقاربي على فترات منتظمة. لم يكن أحد يرحب بي سوى أمي طبعاً التي ما كانت تستسيغ زياراتي الصباحية، إلى أن طلبت مني ذات مرةٍ أن أرجئ الزيارة لما بعد الظهر على الأقل حتى تكون أنشط في استقبالي.

الضوء الذي في داخلي أصبح مرئياً، تتحسسه الطرقات، وتصد عنه أعمدة الإنارة، تخذله الأرصفة. الحديث الذي كنتُ أتجاذبه مع الوحدة بعد أن ألوكه كثيراً انحصر في ابتسامة صافية لا أشعر بجهد في فعلها.

كنتُ أنطلق في فضاءات واسعة لا تتشابه الأيام فيها، وأتجاوز آفاقاً شاسعة تحيطني فيها أفكار جديدةٌ لا تخبو، أصبح صوتي جهورياً، لم أعد أستخدمه كثيراً. كنت غالباً ما أكتفي بتلك الابتسامة. لم تعد هناك أسرار، كان كل شيءٍ جلياً وواضحاً.

فيما بعد حين تحولتُ لسحابةٍ شديدة البياض في كبد السماء كنتُ أدرك الفجوة العميقة بين الناس والطبيعة وأنا أهطل عرق الحياة الصباحية الجميلة على بيتِ أمي، والحديقة التي زرعتها جانب العمارة، وعلى السقف الطيني الذي يظلل مكتبة العجوز المغلقة. 


الاثنين، 9 نوفمبر 2020

حدثيني

 حدثيني، حدثيني عن موقع الأيام من نفسك حين أغيب فيها عنك؛ هل ترينها أياماً من الزمن! أم زمناً من الأيام؟!

أمَّا أنا فما زلتُ تلقيني رياح الهوى حيث شئتِ وشاءت، ولا زلت ألتذُّ وألتاع كلما أعملتُ فكري في كل ما يصدر عنكِ، إن حدث بيننا فتور عاطفةٍ وتأجج أخرى. ولا زلتُ أستدين من الشك علامات ومواقف لا تبدين فيها إلا أنك لا تبذلين لي إلا ما تبذلينه لغيري، وأني في موقع النظر منك كبقية الأشياء والناس حين تأخذ منك حيزاً تفرضه الحياة وتقاطعاتها ولا غير.

بِتُّ أنسئ أيضاً ذلك الوخز في صدري، الوخز الذي ينبئ حين يترقق لي بأنك إنما تفعلين ذلك عن نوعٍ من التجاذب، تطمرين به المشاعر التي أستغرقك فيها، وأستحثك بها، حتى تقتربين لي، تتقاطعين معي أكثر، غير أنَّكِ خلقتِ من مبادرتي تلك وشغفي ذلك كبرياءً لا أطاله، ارتدت دونه عاطفتي. ذلك الكبرياء كان قد حدَّدَ لك المسافة التي أردتِها لتتدفقي، ذلك الكبرياء الذي ربما كان حصنك من الضعف والرقة، لكنه ـ على كل حال ـ ألقاني بعيداً هذه المرة إلى الغياب.

كنتُ فيما قبل أوعز ذلك الحب، أو التقشف فيه، بأنه ليس إلا من قبيل التصابي، والغنج، والدلال، وكنتُ في عمرٍ مستقطعٍ منه أنغمس في ذلك الظنِّ، وأغمر كل ومضة نقد من عقلي داخله، لعلي أرى تلك الحقيقة التي توهمتها. وكنتِ آنذاك تمدين الخطوة أحياناً، تتجهين بها نحوي، كلما أرخيتُ حبل صلتي الذي تشققت منه نفسي شددته بما لك عندي، من أول الوهم الصادق حتى آخر الظنِّ الحسن.

أمَّا الآن، فلا أكاد أجد له وصفاً، أو صيغة أستطيع أن أعثر بها على المعنى الذي يتراءى لقلبي. لطالما بدا ذلك الترائي غير مفهوم، وقلبي بين انهمار ذلك كله وانحساره فقد قدرته على الاهتداء، على تلمس الطريق، على معرفة الرموز والإشارات، والتنبؤ بها.  حتى وأنا أعود إلى ما كان بيننا وأصطحب عقلي، أخشى دائماً أنني بلغتُ ذلك الأمر وحدي. كم ترددتُ وأنا أستبصر بكل ما أوتيتُ من عجلة أن أحكم دون هوى، أو ارتدادات لذلكم الهوى؟! كم فات من الوقت لأدرك أني ما كنتُ أثق تمام الثقة في كل ما اعترفتٍ أو تدفَّقتِ به؟! كم بدا ذلك الصراع بين أن تكوني أحببتني يوماً، أو لم تألفيني لحظة أبدياً لا نهاية له؟!

وأنا والله لستُ أدري رغم ذلك ما أعزي به نفسي وأنا على أعتاب ما بعد هذا الغياب. ولست أحمل معي من الذاكرة إلا أنني مرزوء أنى وجَّهتُ وجهي وأدرتُ نفسي؛ لكنني على أمل خفيِّ لا ينتهي من أن أعرف الأيام التي أغيب فيها عنك، هل ترينها أياماً من الزمن؟ أم زمناً من الأيام؟