الخميس، 14 سبتمبر 2023

مسٌّ من الهوى

 

أُفتنُ، وأيُّ امرئٍ لا يُفتنُ. وأعشقُ، وهل يصمدُ في وجه العشقِ مُفْتَنُ؟!

 

أهيمُ في عوالمكِ التي لا تكفُّ عن دعوتها لي على غير عمدٍ. أتفهمين ذلك؟!

تلك العوالم التي ما انفكت تفتلُ حبلَ ثقتي بالواجبِ فعلهِ أثناء نداءٍ فاقَ ترددَّ الأصوات، وسرعة الضوء في طريقةِ اتصاله بشيءٍ منِّي لا أعرفُ كنهه؛ ولكنني أدرك بأنَّ ذلكم الشيءَ لا يملكُ إلا أن يستجيب، ويدع تحليلات التشاكل والائتلاف، واتفاق الأخلاق والاختلاف، لِمَن تشاكَلَ العجْزُ فيهم على ألا يجدوا تفسيراً منطقياً صحيحاً يعني بعضاً مما ألمَّ بي!

وماله لا يستجيب وقد أشار لهُ من لا يعلمُ إلا لغةَ الإشارة، ودعاه من لا يعرفُ إلا صدقَ الدعوة، وهو من اتَّخذَ له في ذلك من الطبيعةِ طبعاً لا يرومُ به أحداً بعينه، ولا يقصدُ فيه شخصاً بذاته، فدأبَ يدعو إلى تأمُّلِ عُقَدٍ نَفَثَها شَطْرٌ من الجمالِ فيه على أنَّها الدليلُ الماديُّ الأوحد لاستحالة الجمال بشراً في هذه الحياة الدنيا، ثم إنَّه يأبى إلا أن تراه قُبلةَ القمرِ على وجه الأرض.

واللهِ إنَّه لَسِحْر، ثمَّ والله إنَّه لَسِحْر، ولا أعلمُ له تزكيةً إن كان حلالاً، ولستُ بِمَنْ يجرؤ على أن يستفتيَ فيه قلبه؛ ولكنني آخذُ منه الموضعَ اللغويَّ الأول الذي وُضِع فيه فأجد لهذا من ذاك خفاء الباعث، وشدةَ التأثير؛ غير أنَّه في شغفي بكِ جديدٌ ولا يبطُلُ، ولعمري في ذلك الحتفُ والقضاء!

وأسألكِ وأنا على قدرٍ من الفهمِ الذي لا يشغَلُكِ في سحركِ هذا، ما بال سهامك تصيبُ بعضاً وتخطئ بعضاً؟! وما بالُ العاقل مني تولى ساعةَ أن ترجلَّت مفاتنكِ؟! وما بالُكِ تشحذين اهتمامي من حيثُ ألا تعبئين بي؟! وما بالكِ تُعطين من حيثُ تأخذين؟! وما شأنُ الذي يعلم يُسقِطُه جهلكِ؟!

وما شأنكِ في أن تكوني سبباً لسعادتي ونتيجةً لشقائي؟! وما حكاية تجردي من المكنونِ الذي شكَّل بي شخصاً لا يأوي إلا إلى نفسه؟!

أعلمُ -ويا ليتَ أني ما علمت- بأنَّك لو دعاكِ اللطيفُ من الواقع أثناء تشبب ذلكم الوقتُ فيكِ ولمحتِني، لما زِدْتُ على أن أكون مما يَقَعُ عليه نظرك، وحيِّزاً لا تبالي به حاستك؛ ولكنني أقنعُ بذلك، وأعدكُ بأني لن أبرح أرضي من ذلك المشهد، ولن أُعْمِل تفكيري فيما بعده، وسأرتضي بأن أكون كما تكونين دائماً جائرةً منصفة!

على أنني ما زلتُ أعشق....

تقول عُلَيَّة بنت المهدي:

وُضِع الحبُّ على الجورِ فلو / أنصفَ المعشوق فيه لَسَمُج

فقليلُ الحبِّ صرفاً خالصاً / لكَ خيرٌ من كثير قد مُزِج

الأحد، 28 مايو 2023

تضاريس عالمٍ موازٍ/ قصة

 

كثيراً ما كان يعتزل في مكتبه. لم يحدث أن شعر بالوحدة بين تلك الأرفف التي تحيط به من كل جانب. كانت الكتب هواء تلك الغرفة، وهواءه شخصياً، بينما لم أحفل أنا بأي شيءٍ من ذلك إلى وقتٍ قريب. كنتُ أتردد عليه بين فينةٍ وأخرى. أضطر أحياناً في أن أشاركه ذلك الشغف، لا لشيء إلا لأنني أحب أن نتصل أكثر، نتشاطر أهم تفاصيل الحياة التي قررنا أن نتقاسمها سوياً. أدلف عليه من وقتٍ لآخر أدعوه لأن يقتسم معي بعض الطعام، أو يشاركني الشاي المنعنع الذي يحب. يصر على المكوث هنالك، ويقترح أن يكون ذلك عنده في المكتب.

بدايةً، قبلتُ ذلك على مضض. لم يكن المكتب ليتسع لي. كان منغلقاً كحبيبي، منزوياً في ذلك الركن الصغير من البيت الذي لم يكن واسعاً رغم المساحات الشاسعة التي تحده من كل الاتجاهات. منطوياً على بعضه. المكان تملأه الفوضى. لا فراغ رغم ذلك إلا عند عتبة الباب. كان قد شق طريقاً من كرسيه - الذي لا يجلس عليه كثيراً - إلى الباب بعد قبولي مشاركته بعض تلك الأوقات؛ مزيحاً عدة أبراج متوسطة الطول من الكتب المترامية في الغرفة، تمتد سلسلتها من عمود الإنارة الذي يضاهيه طولاً بجانب كرسي الأرابيسك المهجور الذي يجلس عليه مجسم الكرة الأرضية باطمئنان حتى الركن الذي يليه يميناً من مكتبه. كراريس متفرقة، ثلاثة صناديق خشبية صغيرة في جوف أحدها عدد كبير من الفواصل الكرتونية، والثاني غصَّ بجمع غفير من المذكرات الصغيرة بحجم الكف، والثالث كان مقفلاً، خفيفاً عند حمله لا يبدو فيه شيء، لكن صوتاً صدر حين هززته، أطراف ورقة سميكة تصطدم بجدران الصندوق ربما. حدث كل ذلك بعدما قايضت جلوسي معه بترتيب المكتب، وتنظيفه حتى يغدو أكثر قابلية لصناعة حياة منظمة بعض الشيء. برفق أمسك بي لألج عالمه. مضى بي إلى العناوين التي يفضلها، كان هناك أكثر من عنوان في التاريخ، يذكر لي بين حين وآخر عن المعنى الفارغ الذي سينسل من الإنسان حين يكون بلا تاريخ. التاريخ هوية، بطاقة العبور للمستقبل. يشبهه بالنسب كما قال لي غير مرة، هو تماماً كاسم العائلة الذي يختم اسمك في كل مرةٍ تسرده كاملاً. طاف بي أرجاء ركن الروايات والقصص، وقد كان أكبر أركان مكتبته. تنقل بي بين الفانتازيا والواقع والخيال العلمي والأساطير. لم أكن أعرف الكثير من ذلك. أحببت قصة الرجل الذي وجد حظه نائماً عند شجرة بعيدة في الصحراء، وتلك الفتاة الجميلة الباهتة التي ملَّت جمودها في صورة معلقة على الحائط لتقتنص بضع حيوات ظريفةٍ مع ساكن الغرفة الممتلئ بالوحدة. لفتتني أيضاً حالةٌ تتسبب بها فتاة مبتعثة لأهلها حين ترسل لهم برقية باللغة الفرنسية؛ ليظنوا أنها في خطر داهم لأنهم لا يعرفون تلك اللغة. قص حبيبي عليَّ بعض القصص وندبني لاكتشاف البعض الآخر بنفسي. انشغلتُ معه. انسحبت من نفسي لأنغمس رويداً رويداً في ذلك العالم، عالمه، توحدت معه فيما يقول. قطعت وإياه مسافاتٍ نورانية. تقدَّمتُه في إضفاء واقعه السحري الذي يريد، إلى أن تأخرت عليه ذلك اليوم، منذ متى؟ تتشوش ذاكرتي كلما حاولت أن أصفو. تتصدع الأرض من تحتي، وتصطفق جوانحي فأنصعق بقوةٍ خارقة لا أستطيع الصمود أمامها. تنهزم روحي. تتزعزع ثقتي بنفسي، ثم لا أملك من حقيقة ذلك شيئاً.

لكنها مدة محمومة، طويلة جداً تقارب السنة أو تزيد قليلاً. كان قد طلب مني مجمراً ليذكي عوداً معه. كان طلباً غريباً بالنسبة لنا؛ لأنني لم أعد أطيب البيت بالبخور منذ أن شكا لي ضرر صدره من ذلك. بحثت عن المجمر في كل مكانٍ اعتقدتُ أنني وضعته فيه. قلَّبت المطبخ، غرفة الضيوف التي لم يزرنا فيها أحد منذ أن سكنا هنا، خزانة الملابس أسفل الفساتين المعلقة، حقيبة أدوات التجميل، أدراج التسريحة، ركن الشموع الفارغ، الحمام، لم أجد له أثراً. استغرق ذلك مني زمناً، الغريب حقاً أنني أجلَّت سؤالي له عن سبب ذلك إلى أن آتيه بالمجمر، لكنني عندما دخلت المكتب لم أجده، كأنني أصبتُ بالدوار حينها، أو أنه شيءٌ تهيأ لي، لستُ أدري؛ لكنني ندهتُ عليه بأقصى ما في روحي من رجاءٍ ووجد، في كل أرجاء المنزل، في الفناء الأشبه بممر، في الخارج، في البئر المردوم منذ أن تفجر الجدول الصغير بإزائنا بين شجيرات الدردار، في المزرعة القريبة التي تفصل بيننا وبين أقرب سكن منا ببضعة كيلومترات، في كل مكان، حتى في قلبي لم أجده ذلك الوقت؛ لكن أثره باقٍ. خطواته لم تزل تشق في مهجتي دروباً لا تنتهي.

بحثتُ عنه لما يقارب العام. تنفستُ هواءه المملوء بالكتب، والقراءة، والمعرفة، والعزلة، والتأمل ربما، حتى أصبحتُ أشبه بعابدةٍ في مغارة. حاولتُ من خلال انكبابي الشديد على كل ما كان له صلةٌ به؛ أن أجده، أن أتيقَّن بأنه لم يرحل أبداً.

 أعدت المبخر إلى مكانه في أقصى زاوية الرف العلوي. وجدته هناك بعد بضعة أيام من اختفائه، رحيله. جلست على كرسي المكتب الهزاز. لم أعد أتنفس هواءً نقياً. شعرتُ بأنني بالغتُ جداً في تطيّبي. لم أعد قادرة على التركيز بشكل طبيعي. خشيتُ أن أفقدني أنا الأخرى في معمعة ذلك. لم أتبين الصندوق شبه الفارغ على سطح المكتب. كنتُ أنوي فتحه. لستُ أدري إذا كنتُ مهيأةً للانجراف في نقطة التماس مع العالم الموازي القريب، تلك النظرية التي تحدث عنها غير مرةٍ قبل سنة بالتمام، وأفصح عن شغفه بها، وولعه في البحث عن نسخه في تلك العوالم، أرواحه السبعة التي تشكل أحلامه وآماله وأمانيه وخيباته معاً. كنتُ أنتظر مصيراً مجهولاً محفوفاً بالموت وحده، وبالفقد مرة أخرى.

عقب دواماتٍ متكررةٍ من الوعي الكامل بفقدي للوعي، تلقفني حلمٌ غريب أو إرهاصة كبرى لواقع افتراضيٍ جديد. كنتُ على مسافةٍ مناسبة من معرفتي بأنني أقطع براري شاسعة على مد الأفق، قاحلة أضناها الشحوب، لا أثر لماء ولا لحياة. جريتُ حين شعرتُ بقلقٍ ما اجتاحني فجأة، استطعتُ أن أميز خطوطاً متوازية بانتظام في شمالٍ قصيٍّ مني. صيحة، صوت، هو صوتٌ لا بد أن يكون صيحة في هذا الفضاء الساكن. اقشعرَّ جسدي. شعرتُ بأنها هادرة. فزعتُ بسرعةٍ أكبر إلى الأمام، الاتجاه الذي كنتُ أتخذه من قبل، ليس من اتجاه آخر أطمئن إليه. تعتلي الصيحة. يتأكد الصوت. لم أعد أسمع وجيبي. كانت عيناي تتغضنان جزعاً، لا أعرف ما أصابني؛ لكنني توقفتُ حين سمعتُ الصوت ينادي، وقفتُ تماماً لأصيخ سمعي بوضوح. تلفتُ حولي. أجل هو نداء. إنه يهتف باسمي. ركضتُ باتجاه الصوت. تجاوزتُ تلالاً ومفاوز بدت لي دون أن أعرف حتى رأيتُني أقترب من تلك الخطوط. كانت سطوراً منتظمة، سطوراً مصفوفةً بعناية. الأرض تنقبض من جميع الجهات، حتى لم يعد يبدو لي سوى هذي الخطوط والهامش الذي كنتُ أجري فيه. كان العالم كأنه انطوى في كتاب لم تمتلئ صفحاته بعد بينما أنا أجري كنملةٍ من فراغاتها حتى الكتابة. رأيتُهُ، رأيتُهُ هناك بداية الضفة الأخرى، الصفحة التالية، يعتمر عمامةً حمراء، أو ربما هي دماء تجري من خلفه. يحتضن قلماً ضخماً، يخط طريقاً جديداً من الكلمات التي انتزعها من روحه.

 

 

 

الجمعة، 13 يناير 2023

مشاهدات وقراءات عام 2022 (2)

 مسلسل فارغو الموسم الأول، المكون من 10 حلقات، هو أحد أكثر المسلسلات القصيرة التي تستحق المشاهدة. لستُ متأكداً من حقيقة الفكرة التي تم الترويج لها بداية كل حلقة، فقد قرأتُ أنها لا تعدو مزعماً وحيلة تسويقية، ولست أدري عن حقيقة أثرها في نفسي أثناء مشاهدة العمل ثم الحكم عليه. لستُ متأكداً من ذلك في الحقيقة؛ لكن المسلسل بفكرته المكثفة والرمزية عن أصل الإنسان ووجود الشيطان قد قطع مسافات بعيدة جداً نحو الإبداع. يلتقي بيلي بوب ثورنتون رأس حربة هذا العمل البديع مع مارتن فريمان والذي بدوره كان سلاحاً فعلاً في شتى تحولات المسلسل القائمة أساساً على تحول شخصيته بتأثير من لورن مالفو ( بيلي بوب ثورنتون). أحببت في هذا العمل الفاعلية التي خلقها في انطباعي بطرح الأسئلة، ولطالما كنتُ ولا زلتُ مؤمناً بأن العمل المقروء، المكتوب، المرئي، المسموع لا يخلد ولا يعظم إلا بطرح الأسئلة التي تبدأ حقيقة وجودها بعد الانتهاء من قراءة العمل أو مشاهدته أياً كان نوعه وجنسه. لِمَ قدم "لورن مالفو" القاتل المحترف المأجور خدمته العزيزة تلك دون مقابل؟ ثم لماذا ترك ذلك اللقاء الأول بينهما والذي حدث مصادفة أثره الجامح على تلك البلدة الصغيرة؟! ما الذي ترمز له شخصية "ليستر" الضعيفة تلك التي يساعدها الشيطان لأن تنهض؟ ولِمَ حملت كل تلك التحولات الحادة حتى تتضاد مع الشيطان نفسه ذلك الذي قدم لها يد المساعدة؟! تتحدث شخصية لورن مالفو في معرض حوارٍ لها مع صاحب المقهى الشرطي السابق عن مجزرةٍ قد حدثت منذ عشرات السنين في ذات البلدة، بأن نعيماً قد ذاقه من قبل حينما كان في جنة عدن. التأثير الذي بدا عليه "بيلي بوب ثورنتون" كان رائعاً ولا شك، أظنُّ أنه يتشاطر شيئاً مع عظمة الشر وسطوته الفظيعة تلك التي لم أشاهد لها مثيلاً في الدراما والسينما بشكل عام إلا مع الإسباني"خافيير باردم" في فيلم "لا بلد للعجائز" ذلك الشر الأوسكاري. مثير ذلك الرعب الذي يخلقه ثورنتون بتقطيع عباراته، بخطواته الواثقة، تلك التي تميل أحياناً لأن تكون أبطأ من العادة، حتى في موته وهو يستند على الأريكة كان مهيباً لا جدال في هذا، خاصةً وهو لا يزال يرعب قاتله منذ لقائهما الأول. أمَّا "مارتن فريمان" فهو من مدرسة مختلفة، مدرسة إنجليزية تشع منها التعبيرات الجسدية والصوتية، والحديث المقتضب، أستطاع من خلال تلك المواقف التي جمعته بزوجته، والشرطية الذكية، ومالفو، أن يضحكنا، وأن يجعلنا نتعاطف معه، ثم ننقم عليه حين يتحول إلى آلة، لا تحوي ولا تحمل مشاعر الإنسان. حاول هذا العمل الدرامي أن يكون على أشبه مثال من الواقع، ستعتقد حتماً وأنت تشاهد حلقاته بمجرياتها وأحداثها واشتباكات شخصياتها أن الضوء لا يسلط على بطلٍ ما ليضفي عليه المزيد من أدوات الترويج التلفزيوني والسينمائي الخاص، بل على النقيض من هذا، كان الضوء مسلطاً على الفكرة في تلامسها الشديد مع الواقع حتى دخل في ذلك الإبداع شخصيات الأبطال بالتفاوت بين الأدوار وتأثيرهما على مجمل الحكاية.

أما من ناحية الأفلام، فسأسردها باختصار، مع أمنياتي بأن لم أكن قد نسيتُ منها ما يستحق الذكر:

1- فيلم sachertort الألماني، أعجبتني فكرته، كانت مميزة في ظل هذا الزخم من الأفلام الرومانسية.

2- lighting up the stars  الفيلم الصيني الممتلئ بالمشاعر الإنسانية حد الإشباع. مسَّتني موسيقاه التصويرية وهي تمنحه بعداً جمالياً آخر.

3- vortex هذا الفيلم العظيم في الحقيقة، والذي يصر حين لا يقدم ترفيهاً أبداً على محاولة المبدعين من المخرجين والمؤلفين الإبداعية لفهم الحياة، فهم أنفسنا، الولوج إلى ذلك الداخل المبهم، تلك المنطقة التي من خلالها نعيش دون أن نعي ذلك.

4- the worst person in the world التجربة التي تقدمها لنا الحياة، سيرة امرأة شابة، وسعيها الحثيث خلف طموحاتها وأحلامها ونزواتها. علاقاتنا التي تحدد مسير حيواتنا.

5- prisoners عظيم هذا الفيلم، ابتداءً من الحبكة القائمة على لغز الاختفاء، وانتهاء على بروز حقيقة معنى أن الأب هو بطل ابنته الحقيقي وإن توارى تحت الأرض. يقول هذا الفيلم الكثير بخصوص ذلك بذروة أحداثه، وقوة أداء أبطاله وتماسك حكايته.

6- sorry we missed you يتحدث هذا الفيلم عن  الممارسة الرأسمالية في تحول البشر إلى آلات لتحقيق مزيد من الإنتاج، بينما تضيع حياة هذا الفرد الخاصة وتنسل من بين أفراد أسرته حتى نغدو غرباء بيننا بفعل ذلك.

الأحد، 8 يناير 2023

مشاهدات وقراءات عام 2022

 ربما يكون الحديث عن بدايات الأعوام وانتهائها، ومدى قيمة الدروس التي عايشها الفرد منا ويتمنى الاستفادة منها في العام المقبل مكرراً ومؤرقاً ومرهقاً من خلال البؤرة التي صغرت العالم وقربته لنا أكثر، فشاعت لنا الأحاديث، وانتشرت الأخبار، وتشابهت الأقاويل والأفكار، إلا أنه يظل في مثل هكذا فواصل وقواطع عاملاً مهماً في ترتيب الأحداث والوقائع، وفي حساب السنين والأعمار؛ لكنه عدا ذلك ليس بشيء يعول عليه في مدى كيفية عيشنا لهذه الحياة، ولأنني أشعر غالباً بذات الشعور الذي ذكرته آنفاً وما استطعتُ تجاوزه بالكلية إلا أنني أحاول بين فترة وأخرى أن أبدو مستأنساً بذلك التقسيم الزمني، التقطيع المرحلي فيما أراه يناسبه من مشاركة الآداب والفنون التي نستمتع بقضاء أوقاتنا فيها وقتل اللحظات البائسة من الزمن في جريان دمائها على المشاهدات والقراءات والتأملات والتطلعات، ولعلي هنا أفصل بعض تلك المشاهدات والقراءات على سلسلة قصيرة جداً.

مؤخراً ومن خلال اهتمام التلفزيون العربي بالمسلسلات القصيرة، ودخولها في حساباتهم، بدأنا نشاهد أعمالاً بعيدة أولاً وقبل كل شيء عن الترهل الذي بدا ملازماً للدراما العربية، بعيداً عن المشاكل الفنية الأخرى والتي غالباً لا تخلو من أي عمل؛ خاصةً الأعمال الرمضانية. في المسلسلات القصيرة (المحدودة) تركيز شديد على الفكرة، ومن ثم إنشاء البناء المنسجم في أفق تلك الفكرة في الوقت الذي يليق به، لن تتفرع القصة، لن تتشعب الأحداث في أمور جانبية لا علاقة لها بالفكرة، ستكون فيما بعد ذلك الحبكة مكملة لكل تلك الأركان. أعجبني في الحقيقة من بين كل المسلسلات التي شاهدتها في العام المنصرم عملان مختلفان جداً، ولكنهما ممتعان ويستحقان المشاهدة بلا شك. (وش وظهر) للمخرج أحمد الجندي ابن الممثل الجميل محمود الجندي كعمل كوميدي درامي لطيف، مختلف يتميز بالواقعية التي التزمت بالفكرة، وتسليطها الضوء على المكان لإضفاء المزيد من الواقعية على الأحداث، وجذب المشاهد لأن يتطلع أكثر في ما وراء ذلك، أعتقد أن أغلبنا حينها كنا قد أحببنا (طنطا)، بالشوارع الواسعة المضاءة بالإنارة البيضاء، والمطعم الذي تجتمع فيه ريهام عبد الغفور وصديقتها، ومسجد السيد أحمد البدوي، والعيادة التي تشبه كثير من العيادات الموجودة بعيداً عن تلك التي تقدم إلينا في الدراما والسينما، وطاقم التمثيل المتجلي بنور ريهام عبد الغفور بلا شك. المسلسل الآخر هو: مسلسل (غرفة 207) المقتبس من الجميل الراحل د. أحمد خالد توفيق، للسيناريست تامر إبراهيم وهو – حسب ذاكرتي – أحد مخرجات روايات مصرية للجيب، آخر تلك المرحلة، كنتُ قد قرأت له آنذاك رواية جيب باسم : 300 دقيقة، لكنني لم أجد جزءها الثاني، أو ربما لم يستأنفه تامر، ومن ثم قرأت له مؤخراً ثنائية صانع الظلام، وهو محب للجميل أحمد خالد توفيق دون أدنى شك، ويتتبع شيئاً من آثاره بخطه الخاص به، وقد نجح هنا في إدارة هذه القصة المشتبكة التي ما زلتُ أشعر أنها محرضة وبشدة للكتاب أن يستوحوا من مادتها فكرة للكتابة بطريقة خاصة بعض الشيء خاصة الكتاب الذين يميلون لكتابة الرعب. أحب أن أقول هنا أن الديكور كان أشبه بالندَّاهة التي قد تكلم عنها د. أحمد خالد توفيق في سلسلته تلك والتي قدمت في مسلسل ما وراء الطبيعة، يُشده المشاهد قبل أن يندهش في حضور ذلك الديكور، وتزامنه مع الحركات والحياة التي تدور أمامه في ردهة الفندق، وفي الاستقبال، وفي غرفة 207 وفي الغرف الخلفية، أحببت أداء كامل الباشا في (عم مينا) كثيراً، ترك الخواجة مايكل (مراد مكرم) فيَّ أثراً ما، كان مندمجاً مع الشخصية بشكل مثالي للحقيقة، كان بارزاً لا خلاف في هذا، محمد فراج في اللطافة والتأنق الذين بدا فيهما، وفي خسارته المضنية لسارة كان مختلفاً ومتأنقاً. ريهام عبد الغفور أراها تعمل في منطقة مرتفعة خاصةً بها، وهي أقرب لأن تكون النجمة الأولى وحتى إن لم يكن ذلك حسب تقييم الشباك. القصة وألغازها، ممتعة ومثيرة وهي تعلب على وتر الرعب، والسفر عبر الزمن، سيتضح ذلك لاحقاً ربما في الموسم الثاني.

هناك أيضاً مسلسل خفيف لطيف يحقق مقداراً كبيراً من التسلية وإن كان دون هؤلاء في المرتبة إلا أنه يقي وقت المشاهد من الرتابة والملل، موضوع عائلي لماجد الكدواني وعائلته، بالطبع هنا لا يراد من المشاهد سوى أن يضحك فقط، وهو هدف لا يخلو من قيمة.

لن أطيل سأتحدث فيما بعد عن المسلسلات والأفلام الأجنبية، ثم سأعرج على الكتابة إن سمح وسنح الوقت.