جوناثان بن باقوم، لقبَّه أبوه
بجندب، يغرق المركب الذي يحمله وأباه في رحلة تجارية، يموتُ الأب ويبقى الصبي
والألواح الخشب مادة تجارتهم. حينما يصل إلى شاطئ جدة يتعرف على عمر بن الخطاب،
فيذهب به وبالألواح إلى مكة، ثم يتعرف الصبي بأهل مكة: يتحدث مع عثمان، والشيخ أبي
طالب، وعمرو بن العاص الذي يصبح أحد أصدقائه المقربين فيما بعد، ثم ينتقل معه وعمر
وعثمان إلى غزة موطنه وأمه في أحد رحلات أهل مكة التجارية إلى الشام. كل هذا وجندب
لم يكن من أقران هؤلاء الرجال عمراً، فكان في سن العاشرة وهم في ريعان شبابهم؛
لكنه كان يعرف الكثير من علم أهل الكتاب؛ إذ كان نصرانياً وكان أبوه يعلمه الكثير
مما يعرف، تحدث إلى أصدقائه بأحاديث أذابت ذلك الفارق العمري بينهم حتى أصبح
مكيناً لديهم. كان يذكر لهم وهو من أهل الشام طبيعة الصراعات التي بدأت واستمرت
على كرسي الامبراطورية البيزينطية منذ قرون بعيدة حتى وصل بمعرفته إلى الامبراطور
الحالي، وذكر ما جرى بين الروم والفرس من اقتتال بينهم وبين أتباعهم من ملوك العرب
الذين كانوا في أحيان كثيرةٍ سبباً في نشوب المعارك بين الفريقين، ذهبوا في تلك
الرحلة عند راهبٍ في بصرى، ذكر لهم عن قرب ظهور النبي الجديد وأنه من قريش، كان
معهم في تلك الرحلة أمية بن الصلت وهو من ثلاثة لم يرتضوا أن يعبدوا الأصنام في
قريش، وكانوا يبحثون عن الدين القويم؛ ولكنه طمع أن يكون ذلك النبي، فلما وصف له
الراهب شيئاً من صفات النبي المنتظر علم أنه ليس هو وآلمه أن يسخر منه رفاقه في
تلك الجلسة.
رافق جندب فيما بعد إلى الإسكندرية
من غزة عمرو بن العاص، دون سببٍ واضح؛ لكن جندب درس هناك في مكتبة الإسكندرية، ثم
عمل لعمر عيناً حينما أصبح خليفةً للمسلمين على الروم، وتبعه في ذلك عثمان حينما
أعلمه جندب بطبيعة عمله السري مع عمر، فأرسله إلى معاوية لأنه هو من كان يدير
الشام وهي على تخوم الروم، ثم كان من الناس الذين شهدوا زمن مقتل الخليفة، واختلاف
الصحابة في موقعتي الجمل وصفين، يذكر بعض ما روي عنها ممن كان رأساً للفتنة
أحياناً وثقةً أحياناً أخرى.
هذه الرواية باختصار شديد، ولأنني
معجبٌ بعبد الجبار عدوان في روايته الأولى راوي قرطبة إذ أعمل فيها من حقيقة
التاريخ شيئاً يأبى إلا أن يعجب به القارئ، فإني أعتب عليه كثيراً في روايته هذه
التي كانت تحمل التاريخ دون روحه، وتستطلع أن تكون بناءً فنياً متكاملاً أو شاهقاً
بديعاُ؛ لكنها بدت متهلهلة جداً من هذه الناحية. طغت على فنية هذه الرواية
التقاريرُ المعلوماتية التي تصدرها الأحداث الجمة والجمة جداً التي حملها على
عاتقه في إضبارته هذه المصنوعة من وهمية جندب الذي لم يكن إلا كذبة لم تنطلِ على
القارئ أينما حل وارتحل في صفحات الرواية ـــ على أن الأدب أو القصة أجمل كذبة
ممكن أن يمررها العقل على النفس ـــ. تجد تلك الوهمية الواضحة الفاضحة في اللغة
التي يتحدث بها جندب وبعض الصحابة في بعض المقاطع التي لا تمت بصلة إلى تلك التي
يذكرها هو نفسه المؤلف أو جندب في كثير من المقاطع الأخرى التي تُروى على لسان أحد
الرواة الشاهدين على حدث من تلك الأحداث، سرعان ما يبادرك اللحظ وأنت القارئ ذلك
الانفصام الشديد الزمني واللغوي بين ما يقوله جندب وعمرو في حوارٍ لهما من صنع
المؤلف مثلاً، وقول عمروٍ نفسه في أحد تلك الروايات، أجل تعرف أن عمراً ما كان إلا
هناك في بطن ذلك التاريخ بصفحاته التي يرويها الرواة والتي نُقِلت في مقاطع غلبت
على الكيف والكم السردي من الرواية، وهذا يضع كثيراً من قدرة النص على أن يقف على
أرضٍ صلبة يعتمد بها على أن يثبت ثم يعتليَ فيشمخ.
الموضوع الذي خاض فيه عدوان عن زمن الفتنة منذ
مقتل عثمان رضي الله عنه، واختلاف طلحة والزبير ثم معاوية على علي رضي الله عنهم
أجمعين، موضوع شائك جداً ومختلفٌ فيه وعليه، ولم يوفق عدوان فيه أيضاً حينما كان
هو في حقيقة روايته الحدث الأبرز، سواءً أكان صراعاً على الكرسي بزعمه هو حين سمى
به الرواية، أم كان حقيقةً من جانبٍ آخر لا يفيض به من لا يملك كثيراً من العلم،
أقول لم يوفق عدوان هنا أيضاً؛ ليس لأن الموضوع في اختلاف الصحابة شائكٌ وقد انشطر
المسلمون منذ ذلك إلى فرق فقط؛ ولكن لأنه كان يجب أن يكون دقيقاً أكثر في الروايات
التي ينقلها، نحن نعرف أن لتلك المعارك وتلك الفتن روايات كثيرة منها الموغل في
الضعف، والغائر في الوضع، والصحيح المشوب بحكم الهوى؛ وهو في تقريره الروائي حين ينقل
رواية واحدة عن أي حدث، فإنه ملزومٌ بأن يؤمن بصحتها والاعتقاد بها، فإن كان ذلك
كذلك فإنه حكم في أمرٍ وقع حقيقةً وكان فيه من قبل الصحابة الأجلاء ثم التابعين
والعلماء تأويل وتفصيل وتفضيل وحكم، فاختلف الناس، وهو الأمر الذي كان يجب على
عدوان أن يتجنبه ويكون محايداً؛ بخلاف جندب الراوي الحقيقي المفترض لتلك الأحداث
الذي كان محايداً جداً وهو في خضم تلك الأحداث، وهذا لا يتوافق مع المنطق والعقل، وهذا
شرخ كبير في المصداقية وطعنٌ فيها أكبر من طعن صورة الزمن في اللغة المحكية في
الحوار والمقاطع المروية من قبل. كان يجب فنياً على الأقل أن يرتئي جندبُ رأياً في
ذلك وإن بالاعتزال على اعتبار أنه من أعيان تلك الفترة. برز لي رأي
المؤلف لا الراوي في الجناية على أبي ذرٍ رضي الله عنه، منذ حكاية اعتراضه على
عثمان بالخلافة وقوله بأحقية علي إلى اختلاق بعض الأحاديث عن فضل علي رضي الله عنه
بما لا يصدق به عاقل في زمننا هذا، فكيف بأبي ذرٍ رضي الله عنه، وهو من هو في
منزلته من الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إنَّ في ذلك التخمين ـــ الذي يعتبره بعض
الكُتَّاب تأملاً ـــ شيئاً من الحكم على النوايا وهو ما لن يعلمه عدوان ولا غيره
من ذلك الصراع الذي زعموا أنه للسلطة، فأصبح الصحابة الذين باعوا دنياهم مع الرسول،
وطمعوا في أن يلقوا الله والجنة، وعبَّقَ الأرضَ والتاريخَ ذكرهُم، أهل دنيا
يتقاتلون عليها! ما كانوا أولئك والله وهم من قد عرفنا سابقتهم وفضلهم وإن كان من
شيء فيما بينهم فلله ولما ظنوا بصحته وصوابه دون أن يكون للدنيا في نظرهم فيه
خيار، حتى في تلك الاختلافات البسيطة يلمح حبيبنا عدوان في استنتاج " جندبه
" ـــ الذي كان محايداً هنا أيضاً وهو ينقل هذه الرواية ـــ إلى أن لحظِّ
النفس منها نصيباً أوحد كما جرى بين عمر وخالد حين عزله بأبي عبيدة، وهو ابن خاله،
إذ زعم كما غيره بأنه جراء صراعٍ قديم بينهما وأن شيئاً من ذلك غشي قلب عمر! غشيه
وهو في تلك المنزلة من الأمة ليكره أو يأخذ موقفاً معادياً ممن؟ من خالد بن الوليد
سيف الله المسلول، والقائد الفذ البارع وابن خاله أيضا؟ شيء غريب، حتى إنه لم يذكر
حينما توفي خالد رضي الله عنه أسف عمر وبكى وقد كان يطوي في يدهع ورقة فيها إعادة
خالد لمكانه المعروف، وقد ذُكر في موضعٍ سئل عنه ـــ لم يسقه عدوان هنا ـــ فيما يبدو عن عزله لخالد، بأنه كان يخشى أن
يفتتن الناسُ به وبانتصاراته. وهذا للحياد.
قفزة الروائي مما قبل البعثة إلى اليوم الذي
استشهد فيه عمر لم تكن مؤثرة في البنية لأنها لم تكن صلبةً من البداية، وسيقت
لخدمة المعنى الذي يريده الروائي من الخلاف والاختلاف على الإمارة.
وبعد، فلن يثنيَّني هذا التقييم وهذا الضعف في
تجربة عدوان هذه من أن أقرأ له روايةً أخرى تكون شبيهةً بما حكاه عن الأندلس في
راوي قرطبة، وإن كنتُ تمنيتُ إن كان لديه شيءٌ في هذا الموضوع خاصةً ألا يناقشه في
روايةٍ ما وبهذه الطريقة؛ لأنه لو ابتدر للتاريخ نفسه وصنع كتاباً مسنداً من كل ما
يعتقد أنه يملكه من براهين وحجج واستنباطات وتقارير ومعلومات لكان حرياً به أن يأخذ
بين أقرانه مكاناً جيداً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق