الخميس، 14 سبتمبر 2023

مسٌّ من الهوى

 

أُفتنُ، وأيُّ امرئٍ لا يُفتنُ. وأعشقُ، وهل يصمدُ في وجه العشقِ مُفْتَنُ؟!

 

أهيمُ في عوالمكِ التي لا تكفُّ عن دعوتها لي على غير عمدٍ. أتفهمين ذلك؟!

تلك العوالم التي ما انفكت تفتلُ حبلَ ثقتي بالواجبِ فعلهِ أثناء نداءٍ فاقَ ترددَّ الأصوات، وسرعة الضوء في طريقةِ اتصاله بشيءٍ منِّي لا أعرفُ كنهه؛ ولكنني أدرك بأنَّ ذلكم الشيءَ لا يملكُ إلا أن يستجيب، ويدع تحليلات التشاكل والائتلاف، واتفاق الأخلاق والاختلاف، لِمَن تشاكَلَ العجْزُ فيهم على ألا يجدوا تفسيراً منطقياً صحيحاً يعني بعضاً مما ألمَّ بي!

وماله لا يستجيب وقد أشار لهُ من لا يعلمُ إلا لغةَ الإشارة، ودعاه من لا يعرفُ إلا صدقَ الدعوة، وهو من اتَّخذَ له في ذلك من الطبيعةِ طبعاً لا يرومُ به أحداً بعينه، ولا يقصدُ فيه شخصاً بذاته، فدأبَ يدعو إلى تأمُّلِ عُقَدٍ نَفَثَها شَطْرٌ من الجمالِ فيه على أنَّها الدليلُ الماديُّ الأوحد لاستحالة الجمال بشراً في هذه الحياة الدنيا، ثم إنَّه يأبى إلا أن تراه قُبلةَ القمرِ على وجه الأرض.

واللهِ إنَّه لَسِحْر، ثمَّ والله إنَّه لَسِحْر، ولا أعلمُ له تزكيةً إن كان حلالاً، ولستُ بِمَنْ يجرؤ على أن يستفتيَ فيه قلبه؛ ولكنني آخذُ منه الموضعَ اللغويَّ الأول الذي وُضِع فيه فأجد لهذا من ذاك خفاء الباعث، وشدةَ التأثير؛ غير أنَّه في شغفي بكِ جديدٌ ولا يبطُلُ، ولعمري في ذلك الحتفُ والقضاء!

وأسألكِ وأنا على قدرٍ من الفهمِ الذي لا يشغَلُكِ في سحركِ هذا، ما بال سهامك تصيبُ بعضاً وتخطئ بعضاً؟! وما بالُ العاقل مني تولى ساعةَ أن ترجلَّت مفاتنكِ؟! وما بالُكِ تشحذين اهتمامي من حيثُ ألا تعبئين بي؟! وما بالكِ تُعطين من حيثُ تأخذين؟! وما شأنُ الذي يعلم يُسقِطُه جهلكِ؟!

وما شأنكِ في أن تكوني سبباً لسعادتي ونتيجةً لشقائي؟! وما حكاية تجردي من المكنونِ الذي شكَّل بي شخصاً لا يأوي إلا إلى نفسه؟!

أعلمُ -ويا ليتَ أني ما علمت- بأنَّك لو دعاكِ اللطيفُ من الواقع أثناء تشبب ذلكم الوقتُ فيكِ ولمحتِني، لما زِدْتُ على أن أكون مما يَقَعُ عليه نظرك، وحيِّزاً لا تبالي به حاستك؛ ولكنني أقنعُ بذلك، وأعدكُ بأني لن أبرح أرضي من ذلك المشهد، ولن أُعْمِل تفكيري فيما بعده، وسأرتضي بأن أكون كما تكونين دائماً جائرةً منصفة!

على أنني ما زلتُ أعشق....

تقول عُلَيَّة بنت المهدي:

وُضِع الحبُّ على الجورِ فلو / أنصفَ المعشوق فيه لَسَمُج

فقليلُ الحبِّ صرفاً خالصاً / لكَ خيرٌ من كثير قد مُزِج

الأحد، 28 مايو 2023

تضاريس عالمٍ موازٍ/ قصة

 

كثيراً ما كان يعتزل في مكتبه. لم يحدث أن شعر بالوحدة بين تلك الأرفف التي تحيط به من كل جانب. كانت الكتب هواء تلك الغرفة، وهواءه شخصياً، بينما لم أحفل أنا بأي شيءٍ من ذلك إلى وقتٍ قريب. كنتُ أتردد عليه بين فينةٍ وأخرى. أضطر أحياناً في أن أشاركه ذلك الشغف، لا لشيء إلا لأنني أحب أن نتصل أكثر، نتشاطر أهم تفاصيل الحياة التي قررنا أن نتقاسمها سوياً. أدلف عليه من وقتٍ لآخر أدعوه لأن يقتسم معي بعض الطعام، أو يشاركني الشاي المنعنع الذي يحب. يصر على المكوث هنالك، ويقترح أن يكون ذلك عنده في المكتب.

بدايةً، قبلتُ ذلك على مضض. لم يكن المكتب ليتسع لي. كان منغلقاً كحبيبي، منزوياً في ذلك الركن الصغير من البيت الذي لم يكن واسعاً رغم المساحات الشاسعة التي تحده من كل الاتجاهات. منطوياً على بعضه. المكان تملأه الفوضى. لا فراغ رغم ذلك إلا عند عتبة الباب. كان قد شق طريقاً من كرسيه - الذي لا يجلس عليه كثيراً - إلى الباب بعد قبولي مشاركته بعض تلك الأوقات؛ مزيحاً عدة أبراج متوسطة الطول من الكتب المترامية في الغرفة، تمتد سلسلتها من عمود الإنارة الذي يضاهيه طولاً بجانب كرسي الأرابيسك المهجور الذي يجلس عليه مجسم الكرة الأرضية باطمئنان حتى الركن الذي يليه يميناً من مكتبه. كراريس متفرقة، ثلاثة صناديق خشبية صغيرة في جوف أحدها عدد كبير من الفواصل الكرتونية، والثاني غصَّ بجمع غفير من المذكرات الصغيرة بحجم الكف، والثالث كان مقفلاً، خفيفاً عند حمله لا يبدو فيه شيء، لكن صوتاً صدر حين هززته، أطراف ورقة سميكة تصطدم بجدران الصندوق ربما. حدث كل ذلك بعدما قايضت جلوسي معه بترتيب المكتب، وتنظيفه حتى يغدو أكثر قابلية لصناعة حياة منظمة بعض الشيء. برفق أمسك بي لألج عالمه. مضى بي إلى العناوين التي يفضلها، كان هناك أكثر من عنوان في التاريخ، يذكر لي بين حين وآخر عن المعنى الفارغ الذي سينسل من الإنسان حين يكون بلا تاريخ. التاريخ هوية، بطاقة العبور للمستقبل. يشبهه بالنسب كما قال لي غير مرة، هو تماماً كاسم العائلة الذي يختم اسمك في كل مرةٍ تسرده كاملاً. طاف بي أرجاء ركن الروايات والقصص، وقد كان أكبر أركان مكتبته. تنقل بي بين الفانتازيا والواقع والخيال العلمي والأساطير. لم أكن أعرف الكثير من ذلك. أحببت قصة الرجل الذي وجد حظه نائماً عند شجرة بعيدة في الصحراء، وتلك الفتاة الجميلة الباهتة التي ملَّت جمودها في صورة معلقة على الحائط لتقتنص بضع حيوات ظريفةٍ مع ساكن الغرفة الممتلئ بالوحدة. لفتتني أيضاً حالةٌ تتسبب بها فتاة مبتعثة لأهلها حين ترسل لهم برقية باللغة الفرنسية؛ ليظنوا أنها في خطر داهم لأنهم لا يعرفون تلك اللغة. قص حبيبي عليَّ بعض القصص وندبني لاكتشاف البعض الآخر بنفسي. انشغلتُ معه. انسحبت من نفسي لأنغمس رويداً رويداً في ذلك العالم، عالمه، توحدت معه فيما يقول. قطعت وإياه مسافاتٍ نورانية. تقدَّمتُه في إضفاء واقعه السحري الذي يريد، إلى أن تأخرت عليه ذلك اليوم، منذ متى؟ تتشوش ذاكرتي كلما حاولت أن أصفو. تتصدع الأرض من تحتي، وتصطفق جوانحي فأنصعق بقوةٍ خارقة لا أستطيع الصمود أمامها. تنهزم روحي. تتزعزع ثقتي بنفسي، ثم لا أملك من حقيقة ذلك شيئاً.

لكنها مدة محمومة، طويلة جداً تقارب السنة أو تزيد قليلاً. كان قد طلب مني مجمراً ليذكي عوداً معه. كان طلباً غريباً بالنسبة لنا؛ لأنني لم أعد أطيب البيت بالبخور منذ أن شكا لي ضرر صدره من ذلك. بحثت عن المجمر في كل مكانٍ اعتقدتُ أنني وضعته فيه. قلَّبت المطبخ، غرفة الضيوف التي لم يزرنا فيها أحد منذ أن سكنا هنا، خزانة الملابس أسفل الفساتين المعلقة، حقيبة أدوات التجميل، أدراج التسريحة، ركن الشموع الفارغ، الحمام، لم أجد له أثراً. استغرق ذلك مني زمناً، الغريب حقاً أنني أجلَّت سؤالي له عن سبب ذلك إلى أن آتيه بالمجمر، لكنني عندما دخلت المكتب لم أجده، كأنني أصبتُ بالدوار حينها، أو أنه شيءٌ تهيأ لي، لستُ أدري؛ لكنني ندهتُ عليه بأقصى ما في روحي من رجاءٍ ووجد، في كل أرجاء المنزل، في الفناء الأشبه بممر، في الخارج، في البئر المردوم منذ أن تفجر الجدول الصغير بإزائنا بين شجيرات الدردار، في المزرعة القريبة التي تفصل بيننا وبين أقرب سكن منا ببضعة كيلومترات، في كل مكان، حتى في قلبي لم أجده ذلك الوقت؛ لكن أثره باقٍ. خطواته لم تزل تشق في مهجتي دروباً لا تنتهي.

بحثتُ عنه لما يقارب العام. تنفستُ هواءه المملوء بالكتب، والقراءة، والمعرفة، والعزلة، والتأمل ربما، حتى أصبحتُ أشبه بعابدةٍ في مغارة. حاولتُ من خلال انكبابي الشديد على كل ما كان له صلةٌ به؛ أن أجده، أن أتيقَّن بأنه لم يرحل أبداً.

 أعدت المبخر إلى مكانه في أقصى زاوية الرف العلوي. وجدته هناك بعد بضعة أيام من اختفائه، رحيله. جلست على كرسي المكتب الهزاز. لم أعد أتنفس هواءً نقياً. شعرتُ بأنني بالغتُ جداً في تطيّبي. لم أعد قادرة على التركيز بشكل طبيعي. خشيتُ أن أفقدني أنا الأخرى في معمعة ذلك. لم أتبين الصندوق شبه الفارغ على سطح المكتب. كنتُ أنوي فتحه. لستُ أدري إذا كنتُ مهيأةً للانجراف في نقطة التماس مع العالم الموازي القريب، تلك النظرية التي تحدث عنها غير مرةٍ قبل سنة بالتمام، وأفصح عن شغفه بها، وولعه في البحث عن نسخه في تلك العوالم، أرواحه السبعة التي تشكل أحلامه وآماله وأمانيه وخيباته معاً. كنتُ أنتظر مصيراً مجهولاً محفوفاً بالموت وحده، وبالفقد مرة أخرى.

عقب دواماتٍ متكررةٍ من الوعي الكامل بفقدي للوعي، تلقفني حلمٌ غريب أو إرهاصة كبرى لواقع افتراضيٍ جديد. كنتُ على مسافةٍ مناسبة من معرفتي بأنني أقطع براري شاسعة على مد الأفق، قاحلة أضناها الشحوب، لا أثر لماء ولا لحياة. جريتُ حين شعرتُ بقلقٍ ما اجتاحني فجأة، استطعتُ أن أميز خطوطاً متوازية بانتظام في شمالٍ قصيٍّ مني. صيحة، صوت، هو صوتٌ لا بد أن يكون صيحة في هذا الفضاء الساكن. اقشعرَّ جسدي. شعرتُ بأنها هادرة. فزعتُ بسرعةٍ أكبر إلى الأمام، الاتجاه الذي كنتُ أتخذه من قبل، ليس من اتجاه آخر أطمئن إليه. تعتلي الصيحة. يتأكد الصوت. لم أعد أسمع وجيبي. كانت عيناي تتغضنان جزعاً، لا أعرف ما أصابني؛ لكنني توقفتُ حين سمعتُ الصوت ينادي، وقفتُ تماماً لأصيخ سمعي بوضوح. تلفتُ حولي. أجل هو نداء. إنه يهتف باسمي. ركضتُ باتجاه الصوت. تجاوزتُ تلالاً ومفاوز بدت لي دون أن أعرف حتى رأيتُني أقترب من تلك الخطوط. كانت سطوراً منتظمة، سطوراً مصفوفةً بعناية. الأرض تنقبض من جميع الجهات، حتى لم يعد يبدو لي سوى هذي الخطوط والهامش الذي كنتُ أجري فيه. كان العالم كأنه انطوى في كتاب لم تمتلئ صفحاته بعد بينما أنا أجري كنملةٍ من فراغاتها حتى الكتابة. رأيتُهُ، رأيتُهُ هناك بداية الضفة الأخرى، الصفحة التالية، يعتمر عمامةً حمراء، أو ربما هي دماء تجري من خلفه. يحتضن قلماً ضخماً، يخط طريقاً جديداً من الكلمات التي انتزعها من روحه.

 

 

 

الجمعة، 13 يناير 2023

مشاهدات وقراءات عام 2022 (2)

 مسلسل فارغو الموسم الأول، المكون من 10 حلقات، هو أحد أكثر المسلسلات القصيرة التي تستحق المشاهدة. لستُ متأكداً من حقيقة الفكرة التي تم الترويج لها بداية كل حلقة، فقد قرأتُ أنها لا تعدو مزعماً وحيلة تسويقية، ولست أدري عن حقيقة أثرها في نفسي أثناء مشاهدة العمل ثم الحكم عليه. لستُ متأكداً من ذلك في الحقيقة؛ لكن المسلسل بفكرته المكثفة والرمزية عن أصل الإنسان ووجود الشيطان قد قطع مسافات بعيدة جداً نحو الإبداع. يلتقي بيلي بوب ثورنتون رأس حربة هذا العمل البديع مع مارتن فريمان والذي بدوره كان سلاحاً فعلاً في شتى تحولات المسلسل القائمة أساساً على تحول شخصيته بتأثير من لورن مالفو ( بيلي بوب ثورنتون). أحببت في هذا العمل الفاعلية التي خلقها في انطباعي بطرح الأسئلة، ولطالما كنتُ ولا زلتُ مؤمناً بأن العمل المقروء، المكتوب، المرئي، المسموع لا يخلد ولا يعظم إلا بطرح الأسئلة التي تبدأ حقيقة وجودها بعد الانتهاء من قراءة العمل أو مشاهدته أياً كان نوعه وجنسه. لِمَ قدم "لورن مالفو" القاتل المحترف المأجور خدمته العزيزة تلك دون مقابل؟ ثم لماذا ترك ذلك اللقاء الأول بينهما والذي حدث مصادفة أثره الجامح على تلك البلدة الصغيرة؟! ما الذي ترمز له شخصية "ليستر" الضعيفة تلك التي يساعدها الشيطان لأن تنهض؟ ولِمَ حملت كل تلك التحولات الحادة حتى تتضاد مع الشيطان نفسه ذلك الذي قدم لها يد المساعدة؟! تتحدث شخصية لورن مالفو في معرض حوارٍ لها مع صاحب المقهى الشرطي السابق عن مجزرةٍ قد حدثت منذ عشرات السنين في ذات البلدة، بأن نعيماً قد ذاقه من قبل حينما كان في جنة عدن. التأثير الذي بدا عليه "بيلي بوب ثورنتون" كان رائعاً ولا شك، أظنُّ أنه يتشاطر شيئاً مع عظمة الشر وسطوته الفظيعة تلك التي لم أشاهد لها مثيلاً في الدراما والسينما بشكل عام إلا مع الإسباني"خافيير باردم" في فيلم "لا بلد للعجائز" ذلك الشر الأوسكاري. مثير ذلك الرعب الذي يخلقه ثورنتون بتقطيع عباراته، بخطواته الواثقة، تلك التي تميل أحياناً لأن تكون أبطأ من العادة، حتى في موته وهو يستند على الأريكة كان مهيباً لا جدال في هذا، خاصةً وهو لا يزال يرعب قاتله منذ لقائهما الأول. أمَّا "مارتن فريمان" فهو من مدرسة مختلفة، مدرسة إنجليزية تشع منها التعبيرات الجسدية والصوتية، والحديث المقتضب، أستطاع من خلال تلك المواقف التي جمعته بزوجته، والشرطية الذكية، ومالفو، أن يضحكنا، وأن يجعلنا نتعاطف معه، ثم ننقم عليه حين يتحول إلى آلة، لا تحوي ولا تحمل مشاعر الإنسان. حاول هذا العمل الدرامي أن يكون على أشبه مثال من الواقع، ستعتقد حتماً وأنت تشاهد حلقاته بمجرياتها وأحداثها واشتباكات شخصياتها أن الضوء لا يسلط على بطلٍ ما ليضفي عليه المزيد من أدوات الترويج التلفزيوني والسينمائي الخاص، بل على النقيض من هذا، كان الضوء مسلطاً على الفكرة في تلامسها الشديد مع الواقع حتى دخل في ذلك الإبداع شخصيات الأبطال بالتفاوت بين الأدوار وتأثيرهما على مجمل الحكاية.

أما من ناحية الأفلام، فسأسردها باختصار، مع أمنياتي بأن لم أكن قد نسيتُ منها ما يستحق الذكر:

1- فيلم sachertort الألماني، أعجبتني فكرته، كانت مميزة في ظل هذا الزخم من الأفلام الرومانسية.

2- lighting up the stars  الفيلم الصيني الممتلئ بالمشاعر الإنسانية حد الإشباع. مسَّتني موسيقاه التصويرية وهي تمنحه بعداً جمالياً آخر.

3- vortex هذا الفيلم العظيم في الحقيقة، والذي يصر حين لا يقدم ترفيهاً أبداً على محاولة المبدعين من المخرجين والمؤلفين الإبداعية لفهم الحياة، فهم أنفسنا، الولوج إلى ذلك الداخل المبهم، تلك المنطقة التي من خلالها نعيش دون أن نعي ذلك.

4- the worst person in the world التجربة التي تقدمها لنا الحياة، سيرة امرأة شابة، وسعيها الحثيث خلف طموحاتها وأحلامها ونزواتها. علاقاتنا التي تحدد مسير حيواتنا.

5- prisoners عظيم هذا الفيلم، ابتداءً من الحبكة القائمة على لغز الاختفاء، وانتهاء على بروز حقيقة معنى أن الأب هو بطل ابنته الحقيقي وإن توارى تحت الأرض. يقول هذا الفيلم الكثير بخصوص ذلك بذروة أحداثه، وقوة أداء أبطاله وتماسك حكايته.

6- sorry we missed you يتحدث هذا الفيلم عن  الممارسة الرأسمالية في تحول البشر إلى آلات لتحقيق مزيد من الإنتاج، بينما تضيع حياة هذا الفرد الخاصة وتنسل من بين أفراد أسرته حتى نغدو غرباء بيننا بفعل ذلك.

الأحد، 8 يناير 2023

مشاهدات وقراءات عام 2022

 ربما يكون الحديث عن بدايات الأعوام وانتهائها، ومدى قيمة الدروس التي عايشها الفرد منا ويتمنى الاستفادة منها في العام المقبل مكرراً ومؤرقاً ومرهقاً من خلال البؤرة التي صغرت العالم وقربته لنا أكثر، فشاعت لنا الأحاديث، وانتشرت الأخبار، وتشابهت الأقاويل والأفكار، إلا أنه يظل في مثل هكذا فواصل وقواطع عاملاً مهماً في ترتيب الأحداث والوقائع، وفي حساب السنين والأعمار؛ لكنه عدا ذلك ليس بشيء يعول عليه في مدى كيفية عيشنا لهذه الحياة، ولأنني أشعر غالباً بذات الشعور الذي ذكرته آنفاً وما استطعتُ تجاوزه بالكلية إلا أنني أحاول بين فترة وأخرى أن أبدو مستأنساً بذلك التقسيم الزمني، التقطيع المرحلي فيما أراه يناسبه من مشاركة الآداب والفنون التي نستمتع بقضاء أوقاتنا فيها وقتل اللحظات البائسة من الزمن في جريان دمائها على المشاهدات والقراءات والتأملات والتطلعات، ولعلي هنا أفصل بعض تلك المشاهدات والقراءات على سلسلة قصيرة جداً.

مؤخراً ومن خلال اهتمام التلفزيون العربي بالمسلسلات القصيرة، ودخولها في حساباتهم، بدأنا نشاهد أعمالاً بعيدة أولاً وقبل كل شيء عن الترهل الذي بدا ملازماً للدراما العربية، بعيداً عن المشاكل الفنية الأخرى والتي غالباً لا تخلو من أي عمل؛ خاصةً الأعمال الرمضانية. في المسلسلات القصيرة (المحدودة) تركيز شديد على الفكرة، ومن ثم إنشاء البناء المنسجم في أفق تلك الفكرة في الوقت الذي يليق به، لن تتفرع القصة، لن تتشعب الأحداث في أمور جانبية لا علاقة لها بالفكرة، ستكون فيما بعد ذلك الحبكة مكملة لكل تلك الأركان. أعجبني في الحقيقة من بين كل المسلسلات التي شاهدتها في العام المنصرم عملان مختلفان جداً، ولكنهما ممتعان ويستحقان المشاهدة بلا شك. (وش وظهر) للمخرج أحمد الجندي ابن الممثل الجميل محمود الجندي كعمل كوميدي درامي لطيف، مختلف يتميز بالواقعية التي التزمت بالفكرة، وتسليطها الضوء على المكان لإضفاء المزيد من الواقعية على الأحداث، وجذب المشاهد لأن يتطلع أكثر في ما وراء ذلك، أعتقد أن أغلبنا حينها كنا قد أحببنا (طنطا)، بالشوارع الواسعة المضاءة بالإنارة البيضاء، والمطعم الذي تجتمع فيه ريهام عبد الغفور وصديقتها، ومسجد السيد أحمد البدوي، والعيادة التي تشبه كثير من العيادات الموجودة بعيداً عن تلك التي تقدم إلينا في الدراما والسينما، وطاقم التمثيل المتجلي بنور ريهام عبد الغفور بلا شك. المسلسل الآخر هو: مسلسل (غرفة 207) المقتبس من الجميل الراحل د. أحمد خالد توفيق، للسيناريست تامر إبراهيم وهو – حسب ذاكرتي – أحد مخرجات روايات مصرية للجيب، آخر تلك المرحلة، كنتُ قد قرأت له آنذاك رواية جيب باسم : 300 دقيقة، لكنني لم أجد جزءها الثاني، أو ربما لم يستأنفه تامر، ومن ثم قرأت له مؤخراً ثنائية صانع الظلام، وهو محب للجميل أحمد خالد توفيق دون أدنى شك، ويتتبع شيئاً من آثاره بخطه الخاص به، وقد نجح هنا في إدارة هذه القصة المشتبكة التي ما زلتُ أشعر أنها محرضة وبشدة للكتاب أن يستوحوا من مادتها فكرة للكتابة بطريقة خاصة بعض الشيء خاصة الكتاب الذين يميلون لكتابة الرعب. أحب أن أقول هنا أن الديكور كان أشبه بالندَّاهة التي قد تكلم عنها د. أحمد خالد توفيق في سلسلته تلك والتي قدمت في مسلسل ما وراء الطبيعة، يُشده المشاهد قبل أن يندهش في حضور ذلك الديكور، وتزامنه مع الحركات والحياة التي تدور أمامه في ردهة الفندق، وفي الاستقبال، وفي غرفة 207 وفي الغرف الخلفية، أحببت أداء كامل الباشا في (عم مينا) كثيراً، ترك الخواجة مايكل (مراد مكرم) فيَّ أثراً ما، كان مندمجاً مع الشخصية بشكل مثالي للحقيقة، كان بارزاً لا خلاف في هذا، محمد فراج في اللطافة والتأنق الذين بدا فيهما، وفي خسارته المضنية لسارة كان مختلفاً ومتأنقاً. ريهام عبد الغفور أراها تعمل في منطقة مرتفعة خاصةً بها، وهي أقرب لأن تكون النجمة الأولى وحتى إن لم يكن ذلك حسب تقييم الشباك. القصة وألغازها، ممتعة ومثيرة وهي تعلب على وتر الرعب، والسفر عبر الزمن، سيتضح ذلك لاحقاً ربما في الموسم الثاني.

هناك أيضاً مسلسل خفيف لطيف يحقق مقداراً كبيراً من التسلية وإن كان دون هؤلاء في المرتبة إلا أنه يقي وقت المشاهد من الرتابة والملل، موضوع عائلي لماجد الكدواني وعائلته، بالطبع هنا لا يراد من المشاهد سوى أن يضحك فقط، وهو هدف لا يخلو من قيمة.

لن أطيل سأتحدث فيما بعد عن المسلسلات والأفلام الأجنبية، ثم سأعرج على الكتابة إن سمح وسنح الوقت.

الأحد، 23 أكتوبر 2022

أفتقد صديقاً حميماً

أفتقد صديقاً حميماً. في غمرة الإحساس الملتبس بين الشعور بالوحدة والشعور بالفراغ الذي تستند عليه الروح، تبدو قيمة الأصدقاء مضيئة في تقاسيم ملامح تلكما الحالتين. ولأن للأصدقاء معياراً ومقياساً ما للذين يبدو عليهم التحفظ على أطر الصداقة، أجد أنني أفتقد ما هو أعلى من ذلك وأقرب، أجل أقرب. ألتقي بعدد وافٍ بالنسبة لي من الأصدقاء؛ لكنني أفتقد وأنا في طور حديثي العام، وانتمائي الاجتماعي الهائم إلى الأحاديث الخاصة، المتدفقة عفو الخاطر، تلك التي لا أمنح الوقت ولا الموقف فرصة سانحة للتحفظ عليها، إلى التشاكل الأمثل والتطابق الأكمل، إلى الخلة التي تذهب بي في صفاءٍ إلى قريني، خدني، خليلي، توأم روحي. كنتُ بحاجة إلى دائرة اجتماعية مغلقة، أقل قطراً وأصغر محيطاً، أتطوَّفُ بها كما أشاء. كنتُ بحاجة إلى التفاصيل، تلك الأشياء الحمقاء الخاوية، التي كنا نتداولها ونعتبرها أسراراً، وهي كذلك إذ بدا ثمنها لما انحصر رواجها وتداولها بين اثنين. اليوميات التافهة التي لا تخلو من تبسط نجمعها لنطرحها كلما نلتقي، إن في تلك التفاصيل تبدو الحكاية كلها. في تلك الشبكة الاجتماعية المختلطة من الأصدقاء والأقرباء والمعارف، يظهر الصديق الحميم كشعلةٍ تقودك حيث نفسك التي تعتزل بها، لتكون متحداً بما يكفي مع روحك في هذا الفضاء. حينها ستحلق بكل تأكيد. 

اللهم شركاء يختصرون علينا المسافة مسافة العمر وأصحاباً لا يذخرون لنا إلا المزيد من المودة ورفاقاً يستأنسون بنا، لا نشعر معهم بالوحدة وأحباباً كلما تفقدونا وجدونا في قلوبهم وأحلاماً لا تألو تحلق بنا في السماء وبركةً مثل ذلك فيما تبقى من الحياة.. الحياة الكريمة التي نريد.

الأحد، 15 نوفمبر 2020

كائن نهاري - قصة قصيرة

منذ أن أصبحت كائناً نهارياً وأنا أتقيأ الليل مرةً كل أربع ساعات من لحظات الصباح الأولى حين أستيقظ إلى أفول الشمس عندما أنعم بغفوتي الكبرى. وفي المرات التي لم أكن فيها قادراً على التقيؤ، أخرجه في الحمام سائلاً متخثراً بمواد شمعية قريبة من اللون الأخضر، وكنتُ حين أصاب بإمساك إضافة إلى غثياني المتبقي من عدم قدرتي على التقيؤ، أتخلص منه بطرقٍ أخرى: أتعرقه أحياناً قليلة؛ أطبعه بسبابتي وإبهامي الأيسر على صفحات بيضاء فارغة كنتُ أعددتها فراشاً وثيراً لأحلامي الصغيرة، تجف من ثم الصبغة لتصبح كلماتٍ أستطيع قراءتها على ضوء الشمس. تنمو وتنسل بمرور الوقت فتصير كتاباً مهيباً يقف على رف مكتبتي النهارية. حين لا يحدث أي من تلك الأعراض، تتحول بشرتي السمراء المشربة بأحمر إلى سوادٍ كثيف متجهم ينفر منه من حولي. لم يسبق أن رآني أحد بذلك الشكل سوى الخادمة التي كانت ترسلها أمي كل أسبوع لتنظف شقتي الصغيرة. لم تجرؤ على المجيء بعد ذلك، ولم ترسل أمي خادمة أخرى بعدما اعتقدت ــ حسب ظني ــ أن الأمر لا يعدو تحرشاً جنسياً.

كنت أتخلص من الليل بطريقة غير مألوفة، كما أنها غير إرادية بادئ الأمر وهذا ما جعل الأمر أشبه بتحولي بطريقة بشعة إلى آلة أو أداة لقوى غير طبيعية أرفض الإيمان بها؛ وهذا ما كان أكثر قسوة بالنسبة إلي.

فيما بعد تحول الأمر تدريجياً إلى تفاعل إرادتي مع ما يجري، وجدتني أقتصر على سماع أجنحة الملائكة ترفرف عبر صوت فيروز. زرعتُ حديقة مصغرة جانب العمارة في الأرض الخلاء. اشتريتُ زوج بلابل وكناري، لم يلبثا سوى يومين حتى أطلقتهم محتفظاً بأقفاصهم كذكرى جميلة، كنت قد سجلت تغاريدهم في هاتفي. كتبت شعراً حالماً على غير العادة حين تحولت تلك المكتبة الصباحية التي يمتلكها ذلك العجوز العقيم لمقهى صباحي أشرت عليه به، كنت ــ قبل أن أكون هذا الكائن النوراني الذي أعتقده ــ ألتقيه في عددٍ من الصباحاتٍ التي لا أبتدئ بها يومي بالأحرى، وكان على فراغه الذي آنسته منه لا يفتحها في غير الصبح أبداً. وصلتُ أمي وأقاربي على فترات منتظمة. لم يكن أحد يرحب بي سوى أمي طبعاً التي ما كانت تستسيغ زياراتي الصباحية، إلى أن طلبت مني ذات مرةٍ أن أرجئ الزيارة لما بعد الظهر على الأقل حتى تكون أنشط في استقبالي.

الضوء الذي في داخلي أصبح مرئياً، تتحسسه الطرقات، وتصد عنه أعمدة الإنارة، تخذله الأرصفة. الحديث الذي كنتُ أتجاذبه مع الوحدة بعد أن ألوكه كثيراً انحصر في ابتسامة صافية لا أشعر بجهد في فعلها.

كنتُ أنطلق في فضاءات واسعة لا تتشابه الأيام فيها، وأتجاوز آفاقاً شاسعة تحيطني فيها أفكار جديدةٌ لا تخبو، أصبح صوتي جهورياً، لم أعد أستخدمه كثيراً. كنت غالباً ما أكتفي بتلك الابتسامة. لم تعد هناك أسرار، كان كل شيءٍ جلياً وواضحاً.

فيما بعد حين تحولتُ لسحابةٍ شديدة البياض في كبد السماء كنتُ أدرك الفجوة العميقة بين الناس والطبيعة وأنا أهطل عرق الحياة الصباحية الجميلة على بيتِ أمي، والحديقة التي زرعتها جانب العمارة، وعلى السقف الطيني الذي يظلل مكتبة العجوز المغلقة. 


الاثنين، 9 نوفمبر 2020

حدثيني

 حدثيني، حدثيني عن موقع الأيام من نفسك حين أغيب فيها عنك؛ هل ترينها أياماً من الزمن! أم زمناً من الأيام؟!

أمَّا أنا فما زلتُ تلقيني رياح الهوى حيث شئتِ وشاءت، ولا زلت ألتذُّ وألتاع كلما أعملتُ فكري في كل ما يصدر عنكِ، إن حدث بيننا فتور عاطفةٍ وتأجج أخرى. ولا زلتُ أستدين من الشك علامات ومواقف لا تبدين فيها إلا أنك لا تبذلين لي إلا ما تبذلينه لغيري، وأني في موقع النظر منك كبقية الأشياء والناس حين تأخذ منك حيزاً تفرضه الحياة وتقاطعاتها ولا غير.

بِتُّ أنسئ أيضاً ذلك الوخز في صدري، الوخز الذي ينبئ حين يترقق لي بأنك إنما تفعلين ذلك عن نوعٍ من التجاذب، تطمرين به المشاعر التي أستغرقك فيها، وأستحثك بها، حتى تقتربين لي، تتقاطعين معي أكثر، غير أنَّكِ خلقتِ من مبادرتي تلك وشغفي ذلك كبرياءً لا أطاله، ارتدت دونه عاطفتي. ذلك الكبرياء كان قد حدَّدَ لك المسافة التي أردتِها لتتدفقي، ذلك الكبرياء الذي ربما كان حصنك من الضعف والرقة، لكنه ـ على كل حال ـ ألقاني بعيداً هذه المرة إلى الغياب.

كنتُ فيما قبل أوعز ذلك الحب، أو التقشف فيه، بأنه ليس إلا من قبيل التصابي، والغنج، والدلال، وكنتُ في عمرٍ مستقطعٍ منه أنغمس في ذلك الظنِّ، وأغمر كل ومضة نقد من عقلي داخله، لعلي أرى تلك الحقيقة التي توهمتها. وكنتِ آنذاك تمدين الخطوة أحياناً، تتجهين بها نحوي، كلما أرخيتُ حبل صلتي الذي تشققت منه نفسي شددته بما لك عندي، من أول الوهم الصادق حتى آخر الظنِّ الحسن.

أمَّا الآن، فلا أكاد أجد له وصفاً، أو صيغة أستطيع أن أعثر بها على المعنى الذي يتراءى لقلبي. لطالما بدا ذلك الترائي غير مفهوم، وقلبي بين انهمار ذلك كله وانحساره فقد قدرته على الاهتداء، على تلمس الطريق، على معرفة الرموز والإشارات، والتنبؤ بها.  حتى وأنا أعود إلى ما كان بيننا وأصطحب عقلي، أخشى دائماً أنني بلغتُ ذلك الأمر وحدي. كم ترددتُ وأنا أستبصر بكل ما أوتيتُ من عجلة أن أحكم دون هوى، أو ارتدادات لذلكم الهوى؟! كم فات من الوقت لأدرك أني ما كنتُ أثق تمام الثقة في كل ما اعترفتٍ أو تدفَّقتِ به؟! كم بدا ذلك الصراع بين أن تكوني أحببتني يوماً، أو لم تألفيني لحظة أبدياً لا نهاية له؟!

وأنا والله لستُ أدري رغم ذلك ما أعزي به نفسي وأنا على أعتاب ما بعد هذا الغياب. ولست أحمل معي من الذاكرة إلا أنني مرزوء أنى وجَّهتُ وجهي وأدرتُ نفسي؛ لكنني على أمل خفيِّ لا ينتهي من أن أعرف الأيام التي أغيب فيها عنك، هل ترينها أياماً من الزمن؟ أم زمناً من الأيام؟

السبت، 22 يونيو 2019

لم نعد كما كنا.. يا صديقي!


تغيرتَ، فكأنك صرفٌ من صروف الزمن، وكأنك في انقطاعك عني مرحلة من مراحل العمر، استتبَّ لها أن تقصر عن المزامنة والمزاملة بقية ذلك العمر. كيف لك يا صاحبي أن تصبح باهتاً شاحباً وقد كنتَ نضراً مشرقاً تملأ ما بيننا حياةً زاخرة بالإخاء والمحبة والإلف الذي أرداني خائباً إذ كان الغاية التي لا تسمو عليها غاية، فإذا بها لا شيء، تذوب كقطع الجليد يصهرها ما تخفيه ولا أدركه. أما البداية التي أوجستُ فيها توليك فكمنت في انصرافك عن مسابقتي الصلة، ومناجزتي البر، ومصاولتي الحديث العفو، وتأخرك عن كل ما يدعو إلى دوام ذلك، رغم أني لا أذكر أن قد بدا مني ما يسوءني فيك قبل أن يُسيء إليك، ولا ما تشعر معه بغربةٍ وأنا أحيط بك بروحي وما تشتهيه، وهذا ما أثار حفيظة إلفي وأملي فيك عقب أن أفردتُ في سعة تجافيك ومسافة غيابك صبري وحسن ظني، غير أنه لما أوغل ما بدا منك في روح صداقتنا وجب لي أن أكفَّ الأذى عنها، وأن أدفع ما استطعتُ عن صفاء سريرتها، وحسن غرسها، وبياض نبتتها، ذلك الحشد المتضافر من الهوام والسوام وكل ما خالطه خبثٌ ما مما يراد بها ويحاط بأثرها الجميل الباقي. وسأمضي في سبيل ذلك متعهداً ما قد مضى، مجلاً ما كان، واجداً في نفسي الكثير مما يضيق عنه قولك وعذرك وعتبك فيما بعد. وسلام الله على ما كان بيننا.

الاثنين، 25 يونيو 2018

المسموع من أصوات الرواية

أجادت لطفية الدليمي جمع هذه الحوارات ودمج هذه التجارب المضيئة لعدد من مبدعي كتابة الرواية، كما أنها أجادت تقديم هذا العمل والتمهيد له وترجمته كذلك. تعريفها للرواية ـــ بأنها أداةٌ معرفية قائمة على حرية الفكر والنزوعات البشرية والتحولات المجتمعية ـــ يشير إلى أنها تقف في هذا الفن بأقدام راسخة استطاعت عن طريق ثباتها هذا وإدراكها ذاك أن تبعث في نقل هذه الحوارات من لغة إلى أخرى روحاً محلقة من المعنى المشترك بين اللغتين.
من بين ثمانية عشر روائياً كنت قد قرأتُ لساراماغو وأليف شفق، وكولن ولسون كتاباً نقدياً عن فن الرواية.
توزيع لطفية الجغرافي كان جيداً ولم يكن له منهجاً معيناً حتى نقيسه على قيمة ليست مفقودة. نزعة أدباء أمريكا اللاتينية إلى الفلسفة بناءً على واقعهم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي غير المستقر الذي ساهم بشكل أو آخر كذلك في انطباع كتاباتهم بحقيقة ذلك الواقع، وكثافة أمانيهم في أن يتطور أكثر، أقول تلك النزعة بدت واضحةً في هذا الكتاب أيضاً من خلال أدبائها غاليانو، وفالنسويلا، والمكسيكي كارلوس فوينتس، والبرتغالي ساراماغو.  
طريقة الكتابة أو نهجها الذي يتبعه أولئك الأدباء من انضباط صارم أشعرُ أنه يعبر بطريقةٍ ما عن طبيعة حياتهم وطريقة معيشتهم، فحولوها بناءً على تلك الطبيعة إلى مهنة كبقية المهن تعوز إلى النظام والالتزام، وهذا لا ينفي موهبتهم وتفوقهم ـ في الرواية خاصةً؛ بيد أنه قد لا ينسجم تماماً مع أمزجتنا نحن العرب، ليس تواضعاً أو عظمةً لجنس دون آخر، ولكن لاختلاف الطبع والثقافة والحضارة والجغرافية، وقد أكد الجاحظ وغيره من أدباء العربية على معناي هذا الذي أردت من طرقها في سوانح المزاج حتى لا تكون صنعةً وتكلفاً لا روح فيها، وهذا يخالف مقتضى الانضباط إذ يستحيل أن يكون المزاج سانحاً كل الوقت؛ لكن هذا وبشيءِ من الوسطية يعني أن تنضبط في الكتابة انضباطاً لا يستغلق به مزاجك، ولا تتعرض كتابتك في حرصك على حضوره إلى الإهمال فتموت قبل أن تحيى.
ساراماغو بدا كئيباً وهو يتحدث عن أعماله وعن الأدب وعن طريقته في الكتابة، لا أدري ربما كان هذا ضريبة زيادة الوعي واتساع الثقافة.
فيليب روث يعترف أن الكتابة حرمته من أشياء كثيرة، كما أنها في سهلها الممتنع جحيماً مستديماً لا يوده مصيراً للشاب المقبل على الكتابة.
إدواردو غاليانو بدا كمرشدٍ ديني في إضفاء طابعه الفلسفي وحكمته على تجربته في الكتابة وهمه الوطني الذي سيظل مؤرقاً له إلى ما لا نهاية.
كارلوس فوينتس، مثقف واقعي وكاتب مجيد في مهنته يعرف كيف يمارسها ويحرص على ألا يحدث بينهما شقاق، يقول في الكتابة: " أراها حواراً مع الثقافة الخاصة للكاتب ومع الحضارة التي ينتمي لها ومع كل الأشياء التي يعرفها ويتذكرها".
أليف شفق تبدو طموحة، تسير بخطى ثابتة، لم تكوَّن فكرةً كلية نهائية بعد.
لم يتغلب موراكامي على صراعه مع نفسه في انتمائه إلى الثقافة التي يكتب بها، يتمنى أن تكون يابانية؛ لكنها في الحقيقة ليست ككتابات اليابانيين ولا ثقافتهم.
أعجبني عشق باموق للكتابة، أجد ذلك واضحاً في إجاباته لا يحتاج إلى استنباط، تشغله تركيا، يودها لو تحتذي الثقافة الغربية الأمريكية خاصة. كما أن من اتهم أناييس نن على نرجسيتها في هويتها الأنثوية ليس مخطئاً تماماً من وجهة نظري فيما عرض من حوارها.
دوريس ليسنغ روحها تحيط بالقارئ، تثق بنفسها كثيراً، تأثرت بالصوفية الإيرانية.
كالفيانو أستاذ حقيقي، يقول من ضمن إجاباته: " الروائيون يحكون عن ذلك الجزء من الحقيقة القابع في قاع كل كذبة.
أحببتُ مارغريت أتوود وودتُ لو وجدتُ لها عملاً مترجماً.
في النهاية هناك دائماً شيء صغير ينطلق الروائيون منه في الكتابة، سواءً أكان ذلك الشيء فكرة طارئة، أو صورة، أو غير ذلك، وهو هو البذرة الحميمية التي تنمو فتكبر وتتفرع إلى أن تصبح رواية. هذا ما يقوله الروائيون دوماً ويتفقون عليه.
كتاب يضيف لمكتبتك رونقاً وأناقة ولعقلك تجربةً ومعرفةً ثرية.

الأحد، 18 يونيو 2017

عن حياة الرافعي أتحدث



حياة الرافعي، السيرة العطرة التي ما إن انتهيت من قراءتها حتى امتلأت بها مجدداً ــ وكنت قد قرأتها مرةً قراءة إلكترونية أوشكت فيها أن أتم الكتاب ــ بذلك الجو الأدبي الخلاب الذي كان عليه الرافعي وأدباء عصره.
لي مع الرافعي حلقة تدارس خاصةً بيننا، مفعمة بالمودة والمحبة والفهم الذي لا يكاد يطول، حين أمسكت بهذا الكتاب، لم أجعله بين يدي وأنا قد سمعت نتفاً عنه من هنا وهناك، أو عرضت لي منه مقالة في أحد كتب الأدب، أو مدحة لمحب، أو مذمة لخصم، كلا، فوقوفي عند هذا السفر جاءً بعد زمن معرفة، ومدى مدارسة، وغاية عشرة، وحلقة من علم البيان لم تنته ولن تفعل، بداية من " تحت راية القرآن " إلى الجزء الثاني من " وحي القلم " تخللته بينهما سلسلة من كتبه الراجحة بعباراته الرنانة، وبيانه الجزل، وجمله المموسقة في أكثر من كتاب بين الأدب والنقد والحب والهجاء.
يعرض العريان ـ رحمه الله وهو تلميذ الرافعي النجيب ـ مشكوراً في هذا الكتاب أشياء مما كانت يجب فيها القول والتقريظ لهذا الإمام، ثم هو يستنكر على الأدباء المعاصرين، المنافسين منهم والأصدقاء والمحايدين، ألا يقوموا بشيءٍ من واجب هذا الرجل، وحقه عليهم وعلى الأدب والعربية، ولا يفوته أيضاً أن ينعى عليهم تقاعسهم عن القيام بواجب العزاء للفقيد حتى وإن كان بينه وبينهم من الخصومة ما يوجب العداء، فكيف بأصدقائه منهم، ومن لم يكن بينهم وبينه تشاحن. يعترف العريان أثناء ذلك أن العميد " طه حسين " كان أشرف خصومه حين بعث بعد موته لأهله برقية عزاء. 
من نسبه ومولده لوصف صورته ونشأته وعلمه وثقافته يمسك العريان بزمام هذه السيرة التي ارتأى أن عليه الحق الأكبر في القيام بها معتمداً على صداقته بالرافعي ومعرفته بأهله الأقربين وأصدقائه ومريديه.
تحدث عن شعره وكيف أنه رجلٌ تتملكه الغيرة الأدبية الشديدة والمنافسة الشرسة حين أراد أن يصاول وينافس أكبر شعراء عصره، وقد كان حافلاً أي احتفال بأميرهم أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، والبارودي والكاظمي، وعبد الرحمن صبري وغيرهم، وكان يرى في نفسه القدرة البارعة على منافستهم ومناجزتهم وتجاوزهم، فأنشأ مقالة دون أن يذكر اسمه عليها: يبدي رأيه في الشعراء، ويصنفهم فيها على طبقات، واضعاً نفسه في الطبقة الأولى، وهذا إعلانٌ ماكر منه عن نفسه تبرزه نفسه الطموحة، وموهبته الغيورة، على أنه من زاويةٍ أخرى اعتداد كبير بنفسه، وجرأة ــ ربما حتى وهو لم يذكر اسمه ــ كبيرة في أن ينتقد ويصنف شعراء عصره العمالقة.
من هنا، من هذه الورقة التي كتبها، كان انبعاث الشرارة الأولى لإنشائه البليغ، لنثره الفني البديع، الذي أخذ بلب خصومه قبل محبيه، ليبتدر بعدها في إنشاء كتاب " تاريخ آداب العرب " الذي ابتدرت له الجامعة المصرية إبان إنشائها وجعلت له الجائزة الكبرى إلى أجل مسمى، وكان للرافعي لذلك الاقتراح سهم وسبب حين كتب مقالاً يحمل فيه على الجامعة وأساتذتها ومنهج أدبها لتجتمع فيما بعد لجنتها الفنية لتأخذ بتلك الدعوة، وكان الرافعي يطمع حين نذر لكتابة ذلك الكتاب أن يفوز بمنصب التدريس في الجامعة، على أنه كما يقول العريان لم يرتضِ أن يقدمه للجنة ترفعاً منه أن يحكم عليه من هو أقل شأناً منه.
هذا الكتاب الذي قال عنه طه حسين إبان صدوره ومع وطأة المنافسة ربما حينذاك أنه يشهد الله أن لم يفهمه، ثم يذكر بعد ذلك بوقت رأياً آخر فيه في كتابه " في الشعر الجاهلي " مفاده: "أن لم يعجبه أحد ممن ألفوا في الأدب إلا الأستاذ مصطفى الرافعي لفطنته لما يمكن أن يكون من تأثير القصص في انتحال الشعر وإضافته إلى القدماء، كما فطن لأشياء أخرى قيمة وأحاط بها إحاطة حسنة في الجزء الأول من كتابه".
ثم اندلعت بعد ذلك المعركة الشهيرة بينهما وإن كانت لها بوادر حين رد الرافعي عليه بمقالات ضمنها كتاباً فيما بعد سماه: " تحت راية القرآن " ينكر فيها عليه هذا المذهب المبتدع في الدين والقرآن. 
الإشارات التي يذكرها العريان عن معاركه مع طه والعقاد لم تكن مجزئة للقارئ النهم الشغوف بمعرفة أحداث تلك المعارك، وبما آلت إليه حقيقة؛ لكن العريان ــ وأحسبه كان كذلك ــ رغم أنه تلميذ الرافعي المقرب، وصديقه المحبب إلا أنه لم يجاوز الحكم في تلك المعارك بعاطفته التي بينه وبينه أستاذه وصديقه، إنما ترك الرأي فيها لمن حضرها ولم تكن بينه وبين أحدهما صلة تدفعه لأن يحكم بها على الآخر، وقد انتقد أستاذه في حدته وخروجه عن الطور المعقول في كتابه على السفود حين مسك بتلابيب العقاد.
يقف بعد ذلك في عدة فصول عن الرافعي العاشق، المحب، ويذكر كتبه: حديث القمر، رسائل الأحزان، السحاب الأحمر، أوراق الورد، ويذكر قصة بينه وبين الأديبة مي زيادة، يردها صديق الرافعي القديم جورج إبراهيم، ويذكر ــ العريان ــ أن الكثير لا يعتقد بصحة روايته تلك حين كتبها في الرسالة؛ ولكنه يمضي قدماً نحو ذلك ويؤكد أن الرافعي دق قلبه لها، ويورد لذلك بضع حجج قد لا تثبت؛ لكنها لا تنفي، غير أنها تؤكد أنه كان من طرف الرافعي حين وقف به في ذلك الزقاق أسفل تلك النافذة ليتحدث بحنينه إليها، ثم يتحدث في الفصول الأخيرة عن نقلة الرافعي الاجتماعية حين كتب للرسالة وتواردت عليه رسائل القراء، وهو الذي كان من قبل في عزلةٍ عن الناس إلا القليل منهم.
الكتاب فيه الكثير مما يتمنى أن يكتشفه محب الرافعي والأدب عن حياته وطريقته في الكتابة، وازدهار قلمه إبان فترة عصر النهضة، وعلاقته المتباينة مع أدباء جيله، وأكثر من ذلك مما تخفيه السطور، قام بأثقاله وتركته المكتنزة بالعلم والفكر تلميذه النجيب صاحب القلم المتدفق، السرد السلس المشوق، محمد سعيد العريان الخارج من عباءة الرافعي الأدبية الواسعة، فشكراً له ولإمام العربية مصطفى صادق الرافعي. 

الأحد، 7 مايو 2017

عافية الأمل

أتعلمُ يا صاح بأنني لو طوعتُ القلم بعد عصيان، وغشيتُ الأحرفَ بعد عفة، وهززتُ أغصان المشاعر بعد ثباتٍ فيما أكنه لك من عميقِ ألفة، ومن غائر ثقة، ومن سحر محبة، ومن مودةٍ لا سقف لها، لرأيتُ أنّه من حديث الإشارة، ومن نقص العبارة، ومن بوحٍ كان الكتمان أفصح منه، ومن إبانةٍ كان في إضمارها جميل منطق، على أنني أرى من شموخ ذلكم الصمت أنفَةً يزينها قليلٌ من الإذعانِ لبضع ورق، عله ينصع حينما يقبل عليه الفكر كتابة، لا أن يجلبه العقل حديثاً شفهياً، وعلى كُلٍ فاللغةُ وإن كانت تسع المعاني، وتوجز الأحداث، وتحصرُ الزمن، إلا أنَّها لا تملك من حقيقةِ سعتها تهميشاً لصادقٍ من الإحساس، وإجمالاً لتفصيلٍ من المشاعر، وأن تضعها في الحيِّز الممتلئ منها بما هو متشابه أو متوائم.

آهٍ يا صاحبي، ما أشدَّ بؤسي وأنا أنظر إلى نفسي وهي عاجزةٌ أن تسقيك جرعاً من ماءِ الحياة الذي ما حسبتْ أنَّك في ظمأٍ له، إلا أن تكون تلك البائسة ـ وهي نفسي ـ على بعد خطواتٍ من الدنيا؛ لكنني أحمدُ فيها جزعها وهلعها على أن يصبحَ بعضاً منك على عتبات الهلاك، وأشكر فيها حزنها وكآبتها أن تراك بمظهر من يتعززُّ عليها بالوداع من الدنيا، وأيِّ بلاءٍ هذا الذي ابتليتْ به يا صاح.
والله لو أنَّك وصلتَ فيَّ الهجر، وقطعت في البعد عني أراضين سبع وأنت بتمام صحةٍ وعافية، لما فعلتَ بي كما فعل مرضك هذا في نفسي عليك!
ووالله لو أنَّك بغضَّتَ إليَّ نفسك بكلِّ باعث، وحبَّبتَ إليَّ صدك بعظيمِ تجاهل، لما كنتَ معي كما كان سقمك هذا حين أثقل صحبته علي.
أعلمُ يا خليلي أّنك تدري بكثيرٍ لك لا يحصى لديَّ؛ على أنَّ الأكثر المُحصى لم تتوغل فيه مداركك، إذ إنه مكنونٌ إلا عن أشياء من نفسي، هذا وأنت أنا على كلِّ اعتبار، بيد أنّي سأكرر لك  ما تعرفه، بروحٍ من الكلام الذي لا يقال وهو يقال إلا على ثلمة لسان، وأثر غصة.
أتعرف، هناك من يختصر عليك زمن الصداقة، وقديم العشرة، وماضي الألفة، بأيّامٍ معدودة، لا يحسبُ فيها عقلك مدةً كافيةً لسبر غور رجلٍ أقبلتْ على تعارفه روحك، وتهللت لائتلافه مهجتك؛ فكنتَ أنت ذلك المختصر. أنتَ يا صاح لا مثيل لك عندي، ولا غنى عنك لي. أنت أيها الخليل أملٌ انبلج مما لم يستطع خيالي أن يأتي على قريبٍ له في البهجة، ومثيلٍ له في الفرج. باختصار: أنت روحي في جسدٍ آخر.  
ولا ريبَ أنَّه قضاءُ الله سبحانه وتعالى، وما لنا بدٌّ من أن نرضى بقضائه وقدره بنفسٍ راضية، وما تدري لعلَّ في حادثك ذا خيراً وهو كذلك إن شاء الله.

شفاك الله أيها الحبيب، وعافاك!.       

الأربعاء، 30 مارس 2016

هبة القدر


يليقُ بكِ هذا السكون الذي يذعن لضجيج لطفك، ويليقُ بكِ المكان يبدل من جلده ما يتفق ورقتك، وتليق بك اللحظات تأتي بكِ مُستقطعةً من زمنٍ آخر ساعاته من لهفةٍ وأيامه من وله، وسنينه من شغفٍ لا ينتهي، ويليقُ بك أن يستبطئكِ الحضورُ نفسُهُ، ويليقُ بك أن تتأخري عن كل شيء إلا عن هذا الاستبطاء في قلبي وفي أعين الناس، ويليق بكِ هذا الاحتراز في التعبير عما تمسِّينه من مشاعري ألا أجد صيغةً مناسبة تعني ما تطبعه في نفسي هالتُك النورانية التي أصعد بها إلى درجةٍ من العيِّ أضاهي بها في حالٍ آخر درجات الكلام جميعها من فصاحة وبلاغة وبيان.
يليق بك هذا الخلود في ملصقٍ فني في ذاكرة المشهد. هالتُكِ النورانية تلك تحورت بشيءٍ من دلالتها المادية إلى فراشاتٍ تُحيط بك بذات الضجيج من اللطفِ الذي يُقلُّكِ كسحابةٍ عذراء تعبر أحد الحقول.
ويليقُ بكِ هذا الترفُ من الفتنة في صدري، لأنني حينما أفهمه تماماً أظهرُ له بأنني لستُ وإياهُ على وفاقٍ، أو أنني أتجاهله وحسب، فتعودين شاكةً في أنَّكِ لم تمنحيني إياه على الغاية التي أريد أو شيءٍ منها، فتطلقينه من جديد ترفاً على ترف فأنعمُ به طالباً المزيد؛ لكنني لا أتجاهله دائماً خشية الخروج من ذلك النطاق الذي ندور فيه كيما يستمر ما بيننا.
أنتِ، كما أنتِ لا يُشبهكُ سواك وحظي الفاخر حينما فاز بك، وهو الذي لم يكن من قبل كذلك. أنت ذلك النسيم الذي يلاطف روحي بين حينٍ وآخر داعياً إياها بطلاقته المعتادة إلى الجنة، كمَلَكٍ لم يُوَكَّل بغير هذا لغير واحدٍ من الناس.
وتليقُ بكِ هذه الجروح في نفسي تندمل ساعة أن تعصبي ماضيَّ البئيس بنطاقٍ من أملكِ الخالد في حاضرٍ تصنعين بياضه من تشكلاتٍ للإيمان عالقة في شبكةٍ من رجاءٍ قديمٍ رجح بما سواه.

وأليق بك أنا، هبة القدر إليك، لمَّا كنتُ أحلق بأحلامي فوق جناح القدر مسافراً أبدياً أبحث عن ذلك اللطف، ذلك اللطف الذي بدا فكنتِ أنت، وكان أن وقع ذاك الخيال السحيق على أرضٍ تفسَّحت لكِ عن أجمل ما للطبيعةِ فيها، وكنتُ أنا من ثمَّ ذلك المعنى النبيل الذي لا بد وإن طالت الرحلة أو امتد الحلم أن يعتني بهذه الدلالة، ويمتطي هذه الصهوة من اللغة الجميلة التي لا يعرفها سوانا.